نعيمة صادقي - خاص ترك برس

    إن وضع البيئة السياسية الحزبية الجزائرية  تحت مجهر المقارنة مع النماذج الحزبية اللبرالية الناجحة يقودنا لفكرة مؤداها وجود أعراض مرضية تبدت على شاكلة  شلل في الظاهرة الحزبية الجزائرية  ، في وقت كان لابد للتشكيلات الحزبية على اختلاف مشاربها و أنساقها الفكرية و إيديولوجياتها أن تفرض نفسها في معادلة التنمية الإقتصادية المستدامة و الشاملة  ، فعلى سبيل المثال في النموذج التركي يعتبر حزب العدالة و التنمية حزبا طلائعيا كان هو وقود الإقلاع الإقتصادي و أساس موجه نحو تتويج الفعل الديمقراطي  .

فلماذا نجحت التشكيلة السياسية الحزبية في تركيا بينما فشلنا نحن في نفس المسعى  ؟  و هل هناك إمكانية لتخصيص عوامل و شروط نجاح نموذج  النسق السياسي الحزبي التركي  في البيئة الجزائرية ؟                    

نفترض أن نجاح أي تنظيم حزبي مرهون بطبيعة القيادة السياسية التي تحركه و تدفع به نحو إنجاح متغير تقمص المصلحة الوطنية و تبني رموز السيادة القومية ، قياسا على أن الكون له خالق واحد لذلك فإن وجود عقل أو نسق فكري ممنهج و موحد هو أساس  لتغلغل الحزب في الجماهير ،  بشرط وجود خطاب و لغة موحدة و مؤثرة تصنع الرأي العام ،  عبر قنوات إعلامية مدججة و قوية تتبنى السبق و صناعة الحدث و ليس رد الفعل  سيَما و أن الجماهير اليوم أصبحت لا تقنعها الخطابات الرنانة  أو العاطفية و لا الوعود الكاذبة ، بقدر ما يهمها الإنجاز و الفعل في الميدان .

   أولا :  مفارقات في خصوصية البيئة السياسية الحاضنة للأحزاب بين الجزائر  و تركيا  

   سنعتمد على متغيرات فارقية بين الأنساق الحزبية للدولتين :

 على خلاف النموذج الحزبي التركي تنفرد البيئة السياسية الحزبية في الجزائر بخصوصية ، تتمثل في وجود  علاقة طردية بين غياب أسس التنشئة السياسية و ضعف التجنيد السياسي الحزبي  بسبب ضعف الوعي بالممارسة الديمقراطية  و كان من المفترض أن تكون على رأس التكتلات الحزبية قيادات نخبوية متخصصة في علم السياسة، علم القانون ، علم التسيير ، علم الإدارة ، علم الإقتصاد ، علم الموارد البشرية .... ، حتى أن مؤسسات التنشئة المجتمعية لا تلعب دورها المنوط في بناء مواطن صالح أو إنتاج قادة يمكنهم مستقبلا تقلد رأس الهرم الحزبي  ، و هو ما أضعف الأحزاب السياسية التي أصبحت منضوية في فلك النخب الحاكمة و رجال المال  ، و لا تشكل بذلك  معنى حقيقي للموقف المعارض و لا تتمتع بسيادة و إستقلالية القرار الحزبي  ، عكس الأحزاب في تركيا ،  لها ترسانات إعلامية كبيرة  و تسيطر بمشاركة ساحقة في الإنتخابات المحلية  ،  ففي الإنتخابات المحلية الأخيرة  استحوذ حزب المعارضة على البلديات الحيوية مثل بلدية اسطنبول حيث تجد بلدية يحكمها حزب سياسي  .

طبيعة النظام الحزبي :  نجد نظام الحزب المهيمن في الجزائر بينما في تركيا نظام التعددية الحزبية اللبرالية .

 إن العملية السياسية  تتميز في البيئة الجزائرية بالهرمية  - أي على شكل موشور  قائم -  جعل الحياة السياسية تتسم بالصلابة  ، و تتميز بالانسداد و عدم وجود قنوات الاتصال بين السياسي و الفرد ، و لا يٌرى السياسي إلا في المناسبات الانتخابية أو في النشرات الإخبارية .  و هذا مرده لان النظام الحزبي غير تنافسي  مما جعل أحزاب الموالاة هي الغالبة فهي أشباه أحزاب ،  يظل هدفها الأساسي ليس إحداث التقدم الاقتصادي و السياسي المنشود بل خدمة الأغراض الشخصية  و التكسب . بينما في تركيا تتسم بالمرونة وتخضع للرقابة ،  فالحزب  الحاكم رغم أن لديه روافد إسلامية إلا انه دمج في الحياة السياسية  تيارات قومية و لبرالية  يختلف معها إيديولوجيا ، كما سمح للأحزاب الكردية  بالتمثيل البرلماني للتعبير عن عصبيتها العرقية  بالأسلوب السلمي السياسي   .

آلية النظام الحزبي  : تميزت سنوات حكم الحزب المهيمن بإستبعاد كلي لمفهوم المعارضة وفق قاعدة عمودية ، بينما في النموذج التركي أصبحت علاقة النظام السياسي بالنسق المجتمعي علاقة ملتوية أو إهتزازية  . حيث تبقى وظيفة الحزب في بيئتنا تقتصر على الدور التقليدي  وفق ما ذهب إليه موريس ديفارجي و هي ميزة الأنظمة  الشمولية ، بينما في النموذج التركي تتسع  أدوار الأحزاب اللبرالية  أفقيا لتصبح حلقة الوصل بين الجماهير و السلطة  و تعبر عن المصالح  و تمارس الرقابة على أعمال الحكومة ،  وفق ما ذهب إليه دايفيد استن  . 

فكرة التداول على السلطة  في النسق الحزبي الجزائري هي مجرد  شعار فقط ترفعه الأحزاب السياسية بينما في الواقع لا تُقبل قواعد اللعبة الديمقراطية لذلك نجد  القيادات الحزبية تتمسك كليا بالسلطة و تعمل على توريثها  ، بينما في النسق الحزبي التركي غالبا ما يحسم الصندوق و بشفافية العملية التداولية ، و يُعطى المجال للأكثر قبولا جماهيريا و الأجدر بذلك  .

 ثانيا :    تشابهات في الأنساق الحزبية بين الجزائر و تركيا

المثلث الصراعي : تتعقد البيئة الحزبية في كلا النسقين السياسيين ، سواء التركي أو الجزائري ، و هو ما أدى إلى تصادمات بين الأطياف و الكيانات السياسية  مرده إلى الاختلاف الإيديولوجي بين الأحزاب  كالتالي :  

الصراع بين  ( التيار العسكري و التيار الإسلامي ) : في  تركيا تاريخيا مارس الجيش تضييقا للخناق ضد الأحزاب الإسلامية ، حيث  تم إعدام عدنان مندريس زعيم الحزب الديمقراطي نظرا لفكره الإسلامي المحافظ  المناقض للفكر الكمالي في نظرهم . بينما في الجزائر جرى توقيف للمسار الانتخابي بداية التسعينات .

 في تركيا مثلا ظلت المؤسسة العسكرية أسيرة الطروحات الكمالية و بعيدة عن التطورات الحاصلة التي يشهدها المجتمع التركي ، لذلك بادرت الجزائر لتغيير البنية الفكرية  للمؤسسة العسكرية و تدارك الأخطاء السابقة .   

 الصراع بين ( العلماني و الإسلامي ) :  في تركيا تدافع التيارات الكمالية الراديكالية عن علمانية الدولة و تتصادم مع التيار الإسلامي المحافظ الجديد الذي كان معارضا في السابق .  أما في الجزائر فالنخبة المفرنسة المتفتحة تدافع عن علمانية الدولة  و تسعى إلى استبعاد الإسلاميين عن السلطة ، و العلمانية في كلا النموذجين هي نتاج نخبة متشبعة بالفلسفة التغريبية التحديثية و متخرجة من مدارسها في فرنسا .

تأثير المتغير الخارجي :  في ظل العولمة  يفرض النسق الدولي  قيم اللبرالية  على النظام الوطني للوحدات السياسية ، لذلك تتشابه تركيا و الجزائر في تبني أنساقها الحزبية لقيم الرشادة  كالشفافية و المساءلة و التمكين للمرأة في الحياة السياسية ، غير أن دور البيئة الخارجية في بدايات التحول الديمقراطي في الجزائر بداية التسعينات بعد توقيف المسار الانتخابي كان مُعيقا ، فالنسق الدولي مُمثلا بالقوى الكبرى لم يسمح للممارسات الديمقراطية أن تأخذ مجراها .

و هو ما أدى إلى ترسيخ فكرة البحث عن التأييد الخارجي لدى القيادات الحزبية و استمر ذلك للحاضر ، بينما في تركيا حدث العكس  فقد أيدت أمريكا حزب العدالة و التنمية في بداياتها ، غير أن التشكيلة الحزبية الداخلية  فرضت نفسها  فيما بعد على المنتظم الدولي الذي لم يكن له تأثير حاسم على النسق الحزبي التركي .

صلاحيات رئيس الحزب الحاكم : رغم أن دستور 1982 واضح في تركيا بخصوص قطيعة الرئيس مع حزبه في حالة نجاحه في الانتخابات ، إلا أن اردوغان استمر في لعب ادوار مؤثرة في نشاطات حزب العدالة و التنمية ، و الملاحظ أن تركيا و هي تنحو باتجاه النظام الرئاسي أصبحت متشابهة مع ملامح المشهد السياسي في مرحلة بوتفليقة ، و التي كانت تتسم باتساع صلاحيات و مهام الرئيس كممثل  عن حزب الأفلان .  

  ثالثا : بدائل لتجاوز مثبطات الظاهرة الحزبية في الجزائر - الدروس المستفادة و ما يجب أن يكون - 

  الراهن أن  التنظيمات الحزبية  المتواجدة على الساحة السياسية اليوم  في الجزائر لا تعكس و بحق المسار الديمقراطي و مكدسات التجربة الديمقراطية ، على إعتبار أننا و بالمقارنة مع نماذج عربية كنا سباقين للممارسات الديمقراطية و التعددية السياسية  و الإنفتاح السياسي ، غير أن ما نمر به اليوم من تحولات سياسية فارقة كانت تركيا قد شهدته سنوات الستينيات .

من أجل حل  أزمات الظاهرة الحزبية في الجزائر لابد من تدريب و تكوين  كفاءات قيادية لها استعدادات كارزمية  قادرة على تحمل مسألة إدارة الحكم في المواسم الانتخابية الحاسمة، كما لابد أن تكون إيديولوجية نخبة الأحزاب السياسية مستقبلا  طلائعية ثورية مُعارضة لا تحدث قطيعة كلية مع الموروث الاجتماعي و الممارسات الديمقراطية المكتسبة و في الوقت ذاته تجديدية تعكس تطلعات الفرد و توجهاته و تفهم ما يريده الشارع .

ضرورة استحداث نظم تربوية مرتبطة بالتربية السياسية هدفها الإعداد و التنشئة لقادة الغد ، فمعظم قادة حزب العدالة و التنمية متشبعون بنفس الفكر و درسوا في جامعات اسطنبول  ، منفتحون على العالم و أكثر قبولا للتعددية السياسية و الفكرية   ، و لمَا وجدوا أن هذا الحزب يمثل تطلعاتهم و توجهاتهم الفكرية أيدوه و دعموه للوصول إلى السلطة  بمعنى لا يمكن بناء نسق حزبي فاعل  بكوادر غير وطنية الفكر ، كما يُشترط المستوى العلمي العالي لقادة الأحزاب حتى تقدم بديلا للسلطة الحاكمة و لا تبقى رهينة توجه سياسي واحد  .

           إن النظام الحزبي هو خلية من خلايا النسق السياسي ككل ، و العملية السياسية  تتشكل و تعمل وفق حركيات  هذا النظام الحزبي ، و أي خلل يعتري النسق الحزبي سوف يؤثر بشكل أو بآخر عن الفعل الديمقراطي ككل . كما أن أي تجربة ديمقراطية يشوبها النقص ، و تواجه عثرات حتى في الديمقراطيات اللبرالية الكبرى أين أصبح الإعلام و رجال المال يتحكمون في  الأحزاب  السياسية .

من خلال ما سبق ذكره ، نحن لا نسعى على المستوى الواقعي  لتكرار نسخة عن التجربة الحزبية التركية ، لكن نريد أخذ جوانب النجاح و مواطن القوة لتدارك ضعفنا  و دراسة نقاط هشاشة التركيبة الحزبية في بيئتنا ، فكل تجربة هي متفردة بمتغيراتها الجغرافية و طبيعة عقلية الشعوب و ماضيها و روافدها التاريخية ، و بنيتها الإجتماعية و معتقداتها الثقافية  ، كما لسنا منبهرين بالتجربة التركية ، لكننا نريد أن نجد سبيلا للنهوض السياسي على خطى القوى الديمقراطية الصاعدة التي نجحت في تخطي العقبات التاريخية و القيود الموروثة .

 كمحصلة لابد من زحزحة أحزاب الموالاة لتحل محلها الأحزاب الطلائعية ، تُفعلها كوادر شبانية واعية و طموحة قادرة على إحتواء مثبطات البيئة السياسية الجزائرية التي جعلت التجربة الديمقراطية في الجزائر عرجاء.

عن الكاتب

د. صادقي نعيمة

باحثة دكتوراه منظمات دولية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس