د. سمير صالحة - أساس ميديا

لعب منتجع سوتشي التاريخي دوراً في التقارب والانفتاح التركي الروسي منذ 5 سنوات وكان رمزاً له، لكنّه تحوّل اليوم إلى مركز توجيه الرسائل وقلعة المواجهة التي يخوضها رجب طيب إردوغان ونظيره فلاديمير بوتين بوجه الغرب في أكثر من ملفّ ثنائي وإقليمي.

كان لكلّ من قمم سوتشي التركية الروسية منذ العام 2017 حتى اليوم خصوصيّتها وفوارقها عن نظيراتها. لم تتغيّر القاعدة في لقاء الخامس من الشهر الحالي أيضاً. إذ كان تقاربٌ في مسائل وتباعدٌ في ملفّات أخرى. يعكس قرار تمديد مدّة الاجتماعات في اللقاء الأخير ووصولها إلى 4 ساعات سخونة النقاشات ومتطلّبات المرحلة.

لم تلتزم أنقرة بقرارات الحظر والعقوبات الغربية على روسيا، واختارت أن تبقى على مسافة واحدة بين كييف وموسكو في موضوع الأزمة الأوكرانية. أغضب القرار التركي واشنطن حتماً، لكنّه أفرح العديد من العواصم الأوروبية لوجود هذا الخيط السياسي الدبلوماسي الرفيع من الحوار مع موسكو عبر الطرف التركي.

أراد إردوغان هذه المرّة أن يقطف ثمار موقفه من خلال خطّة نقل الحبوب الأوكرانية إلى مَن ينتظرها منذ أشهر، ويُلزم الغرب بتليين سياساته حيال قرارات الحظر والعقوبات المفروضة على موسكو لتسهيل خروج أطنان من الموادّ الغذائية المحبوسة في مخازن ومستودعات الموانىء الروسية. إنجاز بهذا الاتجاه سيقرّب الطرفين الروسي والتركي بعضهما من البعض الآخر أكثر فأكثر، وسيعطي أنقرة فرصاً استراتيجية جديدة للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية تريدها في العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية، وعلى رأسها الملف السوري حتماً.

العملة الروسية

شكر بوتين نظيره التركي لإسهامه في حلّ مشكلة تصدير الحبوب الأوكرانية، وحاول أن يمرّر رسائل إلى الغرب أيضاً بضرورة أن يكون ممتنّاً لتركيا التي تنقل اليوم الغاز والحبوب والأسمدة إلى أوروبا. لكنّ توقيع المزيد من العقود والاتفاقيات التجارية والماليّة وفي قطاعات السياحة والاستثمار المشترك التي سيتمّ بعضها بالعملة الروسية هو ما قد يثير ردّة فعل أميركا أكثر فأكثر.

لا يتوقّف الإعلام الغربي عن التصعيد ضدّ تركيا والتلويح برزم عقوبات جديدة تنتظرها في حال قرّرت كسر الحصار الاقتصادي والتجاري والمالي المفروض على روسيا. واشنطن قلقة أكثر من ارتدادات التنسيق التركي الروسي الإقليمي على لعبة التوازنات التي تريد فرضها في منطقة البحر الأسود وشرق أوروبا.

توقّف البيان الروسي التركي في أعقاب قمّة سوتشي عند "العلاقات الصادقة والصريحة والثقة المتبادلة بين البلدين" في التعامل مع ملفّات ثنائية وإقليمية تعنيهما، والتعاون المستمرّ للمساهمة في ترسيخ السلم الإقليمي والدولي، والتفاهم المشترك على ضرورة شنّ الحرب على كلّ التنظيمات الإرهابية. لكنّ أولويّات أنقرة هي رفع أرقام التبادل التجاري بين البلدين لتصل إلى 100 مليار دولار سنوياً وفق أساس متوازن وفي قطاعات حيوية متعدّدة الجوانب، بينها التجارة والزراعة والصناعة والمقاولات والسياحة.

100 مليار دولار

بين الجوائز التي تنتظرها أنقرة من الجانب الروسي ليونة أكبر في مشروع محطّة "أك كويو" لتوليد الطاقة من حيث التمويل والإنجاز ومراعاة الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمرّ بها تركيا وحاجة حزب العدالة والتنمية إلى تحقيق تقدّم في المشروع الذي سيدخل حيّز التنفيذ العام المقبل ويوفّر 10 في المئة من احتياجات الطاقة التركية.

المفاجأة الحقيقية والكبرى التي يخبّئها تنسيق إردوغان وبوتين قد تكون في سوريا وعلى أكثر من صعيد. تقول موسكو إنّ أموراً كثيرة تغيّرت في مسار الأزمة السورية منذ 11 عاماً حتّى اليوم، وإنّ على تركيا أن تبدّل من مواقفها وسياساتها السورية. تقترح موسكو على تركيا الحوار والتنسيق المباشر مع النظام في دمشق لبحث الملفّات الخلافية، وعلى رأسها خطط مواجهة الإرهاب. هي تريد أن يصل النقاش، إضافة إلى الشقّ الأمنيّ والاستخباراتي، إلى جوانب سياسية واقتصادية أيضاً. بعد 3 أيام على عودته من قمّة سوتشي سارع إردوغان إلى الإعلان أنّ بلاده متمسّكة بعمليّتها العسكرية الجديدة في شمال سوريا بهدف تطهير المنطقة من المجموعات الإرهابية بعمق 30 كلم وربط الحلقات بعضها بالبعض الآخر لإنشاء المنطقة الآمنة.

نحتاج إلى وقت إضافي لنعرف مَن يوجّه إليه الرئيس التركي كلامه هذه المرّة: إلى موسكو التي دعته إلى الانفتاح على النظام في دمشق؟ أم واشنطن التي وعدت أكثر من مرّة بإعطاء تركيا ما تريده في موضوع قوات سوريا اليمقراطية "قسد"، لكنّها لم تلتزم بتعهّداتها؟

تواصل سياسي تركي سوري

انتشرت تسريبات صحيفة "تركيا" المقرّبة من الحزب الحاكم حول خارطة طريق تركية روسية في سوريا فيها الكثير من المفاجآت التي قد يكون أهمّها التواصل المباشر بين القيادات السياسية التركية والسورية في دمشق. هناك نفي وتجاهل حتى الآن لِما يُقال، لكنّ ما يجري يعني بشكل أو بآخر أنّه كلّما ازداد التقارب التركي الروسي في سوريا قابله تباعد تركي أميركي هناك.

تقوم خطة واشنطن، التي حملها السيناتور ليندسي غراهام إلى الأتراك ورفضتها قيادات قوات سوريا الديمقراطية، على إبعاد مجموعات "قسد" عن الحدود التركية السورية لمسافة 30 كلم في العمق السوري وعلى طول الشريط الحدودي. لكنّها بالمقابل تريد من أنقرة أن لا تعرقل مشروع الحكم الذاتي الكردي في شمال شرق سوريا وتقبل بالحالة الكردية السورية كما حدث في شمال العراق. واشنطن لا يهمّها معرفة رأي بقيّة اللاعبين المحليّين والإقليميين في الملف السوري فهي تفترض أنّها قادرة على تكرار في سوريا شرقاً ما فعلته في العراق شمالاً. مشكلة واشنطن هي تجاهلها لشعارات وأسلوب وأهداف أكراد سوريا التي يختلف بعضها عن البعض الآخر أوّلاً، والتي تختلف كلّيّاً عن الحالة العراقية ثانياً. ومن دون تغيّر حقيقي في مواقف ومطالب وأساليب وأفكار مجموعات "قسد" لن توافق تركيا على أيّ عرض أميركي مهما كان مغرياً بالنسبة إليها.

حلف سوري تركي ضدّ "قسد"؟

أعلن وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو عقب قمّة طهران عن استعداد بلاده لتقديم الدعم للنظام السوري في مواجهة الإرهابيين في سوريا. لكن يتحدّث البعض عن "ضوء أخضر" روسي لتركيا بتصعيد "حرب المسيّرات" لاصطياد قيادات "قسد" بهدف إضعافهم وشلّ قدراتهم بدلاً من عملية عسكرية تركية واسعة في شمال شرق سوريا لا يُعرف شكلها وحدودها وأهدافها النهائية.

يقول إردوغان إنّ بوتين يتعامل مع المواقف والمتطلّبات التركية في سوريا بواقعية وعدالة، لكنّه يعرف جيّداً أنّ الرئيس الروسي هو من نصح النظام أكثر من مرّة بعدم التصعيد ضدّ مجموعات قوات سوريا الديمقراطية، وأن يحتفظ بهذه الورقة ضدّ تركيا ويأخذ بعين الاعتبار حسابات خطّ الرجعة في مسار الملف السوري بشقّه السياسي. فعلى ماذا يعوّل إردوغان هنا؟ لماذا لم يقرّر النظام في دمشق اليوم التحرّك لمحاربة هذه المجموعات التي تسيطر على مساحات واسعة في شرق البلاد وتحرمه من مصادر مالية وغذائية ومعيشية أساسية منذ سنوات ولم تشجّعه موسكو وطهران على ذلك؟

قد تتعلّق الإجابة بمعرفة أنقرة أنّ أيّ تنسيق مع النظام بطلب روسي إيراني في الحرب ضدّ مجموعات "قسد" قد يتحوّل إلى مصيدة لها في سوريا لتوريطها أكثر فأكثر ودفعها إلى تقديم التنازلات التي لن تتوقّف حتى لو تمّ التواصل التركي المباشر مع بشار الأسد. قد تساوم أنقرة النظام وروسيا وإيران على مسألة إخراج "قسد" من المناطق الحدودية، والدخول في نقاش محتمل حول توقيع اتفاقية أضنة جديدة معدّلة تأخذ بعين الاعتبار المتغيّرات الجغرافية والأمنيّة، لكنّ المقايضة الحقيقية ستكون بإنهاء ملف داعش في شرق سوريا وحسمه مقابل فتح الطريق أمام تمدّد وانتشار النظام في مناطق وجود "قسد"، وتحديداً في مدينة القامشلي الحدودية. أين هي حصّة قوى المعارضة السورية في كلّ هذه التغيّرات والسيناريوهات المحتملة؟ وكيف ستتصرّف؟ ومع من ستنسّق لمواصلة مسيرتها؟

رُوِّج لدعابة في الآونة الأخيرة تقول إنّ بوتين قال لإردوغان خلال اتصال هاتفي إنّه يبيع المسيّرات لأوكرانيا وعليه أن يعرض ذلك على روسيا أيضاً. نفى المدير التنفيذي لشركة بيرقدار وجود أيّ تواصل تركي روسي بهذا الخصوص وأكّد أنّ بلاده لن تقدم على خطوة بهذا الاتجاه لأنّها تدعم أوكرانيا ومواقفها في الحرب مع روسيا، و"موقفنا لن يتغيّر في القرم".

تركيا في شنغهاي

في دعابة أخرى، قد تتحوّل إلى حقيقة هذه المرّة، أعلن الرئيس التركي تلقّيه دعوة روسية لحضور قمّة شنغهاي المقرّرة في أوزبكستان الشهر المقبل، وأنّ بلاده ستشارك. ذكّرتنا هذه المفاجأة بالحوار الذي دار بين الرئيسين التركي والروسي قبل ثمانية أعوام أمام الكاميرات عندما مازح إردوغان بوتين بقوله: "إقبلونا في منظّمة شنغهاي لنتخلّص من أعباء العضوية الأوروبية". ثمّ عاد إردوغان وكرّر موقفه بجدّيّة أكبر، في طريق عودته من زيارة لباكستان وأوزبكستان قبل خمس سنوات، بقوله إنّ "الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ليس خيار أنقرة الوحيد، ولا بدّ من مناقشة مسألة العضوية التركية في منظمة شنغهاي التي تعطينا مساحة أوسع في حرّيّة الحركة والانطلاق..".

لن يغامر إردوغان وحزبه بالذهاب وراء انعطافة استراتيجية من هذا النوع تعرِّض السياسة الخارجية التركية وأسسها للخطر. لكنّ ارتفاع عدد الضربات وزيادة خيبات الأمل في العلاقات بين تركيا والغرب هما اللذان سيقرّبان تركيا أكثر فأكثر من الشرق الآسيوي، ويعزّزان العلاقات مع روسيا والصين والانفتاح أكثر فأكثر على منظمة شنغهاي.

يبدي الإعلام التركي المقرّب من حزب العدالة والتنمية حماسة كبيرة لتبنّي سياسة التقارب التركي الروسي والدفاع عنها. تريد قيادات الحزب الحاكم أيضاً أن تسجّل اختراقاً سياسياً في الملف السوري قبل التوجّه إلى الصناديق في حزيران المقبل، لكنّها لا تريد أن تتحوّل المسألة إلى روليت روسية تطيح بعلاقاتها مع أميركا وأوروبا التي بنتها بصبر منذ 7 عقود. وهي تدرك أيضاً صعوبة تسليم بيضها كلّه إلى سلّة موسكو التي فتحت الطريق على وسعها أمام وصول الميليشيات المحسوبة على طهران مصحوبة بالعلم الإيراني إلى مطار منغ على الحدود التركية.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس