ترك برس-الأناضول

ولد أورخان بن عثمان عام 1281م (في بعض المصادر 1288م) بمدينة سوغوت، أمه مال خاتون، الزوجة الأولى للغازي عثمان مؤسس السلطنة العثمانية، وابنة الوزير السلجوقي عمر عبد العزيز.

عام 1324م، تنازل عثمان عن الإمارة لابنه أورخان، وحل محله في منصب أمير الثغور، وأواخر العام نفسه توفي عثمان عن عمر ناهز 67 عاما، تاركا لابنه أورخان الذي كان يحاصر بورصة، دولة مساحتها 16 ألف كيلومتر مربع.

كان أورخان ذا عقلية تنظيمية رفيعة المستوى، فقسم شؤون الدولة بين أخيه علاء الدين، وولديه سليمان ومراد، وجعل من أخيه علاء وزيرا مختصا بالشؤون الداخلية ليصبح أول وزير في تاريخ الدولة العثمانية، بينما انصرف أورخان للعمل العسكري، وبذلك سار الاهتمام بالشأن الداخلي جنبا إلى جنب مع الشأن الخارجي.

عملًا بوصية أبيه، أحاط أورخان نفسه بالبطانة الصالحة من العلماء والأسوياء، أمثال الملّا تاج الدين الكردي، وعلاء الدين باشا ابن الوزير العالم "الحاج كمال الدين"، والقاضي جاندرلي قره خليل باشا، وغيرهم ممن استفاد من خبراتهم ونصائحهم.

حرص أورخان على أن يكون جيشه أداة حكم وحرب معًا، فقام بتعيين القضاة والمفتين يسيرون في ركابه ويستفتيهم، وظلّت وظيفة "قاضي عسكر" التي أنشأها أورخان من المناصب المرموقة طوال حكم العثمانيين.

عام 1326م، تمكن أورخان من فتح بورصة التي حوصرت على مدى سنوات، وأعطى إمارتها لابنه مراد ومنحه لقب والي السنجق "سنجق بك"، ونقل إليها عاصمة الدولة.

وفي العام التالي 1327، بدأ صك أول عملة رسمية بتوصية من جاندرلي قره خليل، نظراً لاعتبارها أبرز علامات الدولة واستقلالها.

أدرك البيزنطيون ضرورة وقف زحف العثمانيين الذين توسعوا نحو البحر الأسود ومضيق البوسفور، خاصةً بعدما علموا نية أورخان بفتح نيقية، فأرسلوا جيشًا لمواجهة العثمانيين، والتقى الجمعان في معركة بيليكانون بين "دارجه" و"إسكي حصار"، كان النصر فيها للعثمانيين.

وأشيع آنذاك أن الإمبراطور البيزنطي قتل، لكنه في الحقيقة جرح وفرّ هاربًا، وبذلك أصبح طريق أورخان إلى نيقية ممهّدًا، وطارت أنباء انتصاراته إلى العواصم العربية حيث عمّ الفرح.

آنذاك، خلع الخليفة العباسي المستكفي بالله ألقابا تشريفية عدة على أورخان، كالسلطان، وسلطان الغزاة، والغازي بن الغازي، وغيرها، كما يروي يلماز أوزتونا في كتاب موسوعة الإمبراطورية العثمانية السياسي والعسكري والحضاري.

وبالفعل، استطاع أورخان الاستيلاء على نيقية عام 1330م، وكانت من أهم المدن في الإمبراطورية البيزنطية، وعهد إلى ولده ووليّ عهده سليمان بحكمها.

** فجر فتوحات الأناضول

يذكر المؤرخ أحمد آق كوندز في كتابه "الدولة العثمانية المجهولة"، أن أورخان فتح إزنيك عام 1331م، وهي مدينة دينية مقدسة لدى البيزنطيين، وأنشأ فيها أول جامعة بالدولة العثمانية، وعيّن على رأسها العالم المعروف ملا دواد القيصري، ومع أن الإمبراطور البيزنطي حاول استردادها بعد 4 سنوات، إلا أن أورخان تصدّى له.

وفي 1337م، فتح أورخان مدينة نيقوميديا (إزميت حاليا)، التي كانت آخر معاقل الإمبراطورية البيزنطية في الركن الشماليّ من شبه جزيرة آسيا الصغرى، وبسقوطها إضافة إلى سقوط المنطقة الغربية من الأناضول، أصبح طريق أورخان مفتوحًا إلى البوسفور.

في العام نفسه، حاول أورخان الزحف نحو القسطنطينية (الاسم القديم لإسطنبول) بواسطة أسطول صغير من 36 سفينة، لكنه هزم أمام البيزنطيين لأن البحرية العثمانية في ذلك الوقت كانت في بداية تشكيلها، فكانت ضعيفة جدًا بالنسبة للأسطول البيزنطي.

ضاعف أورخان مساحة الأراضي العثمانية المطلة على بحري إيجة ومرمرة بعد فتح "قره سي"، متوجّهًا بذلك في فتوحاته نحو الأناضول.

في الأناضول، تقدّم أورخان حتى فتح أنقرة عام 1357م، وتوسعت قواته في الجنوب حتى امتدّت إلى خليج جاندارلي، إضافة إلى ضم منطقة أسكودار، وإمارة بني ألوغ بك، إلى الدولة العثمانية.

كان العثمانيون قد ضمّوا قلعة جيمبا الواقعة في الساحل الأوروبي لمضيق جناق قلعة، أو بمعنى أدق، أهداها الإمبراطور البيزنطي إلى سليمان بك ابن أورخان، الذي توجّه بأوامر من والده لدعم الإمبراطور البيزنطي وإنقاذ مدينة سلانيك من أيدي السلاف، ليصبح بذلك للعثمانيين طريق للعبور إلى أوروبا.

عام 1356م، خطف أحد القراصنة الجنوبيين ابن السلطان أورخان من الأميرة ثيودورا، الشاهزاده خليل، واقتاده إلى "فوجة" الواقعة في بحر إيجة، فلجأ أورخان إلى الإمبراطور يوحنا الخامس لمساعدته، وتمّ دفع فدية لتخليص الأمير العثماني.

في العام التالي فُجع أورخان بموت ابنه سليمان على إثر سقوطه من على فرسه أثناء العدْو، ما أصابه بحزن شديد لازمه حتى وفاته عام 1362م، عن عمر ناهز 81 عاما، بعد مدة حكم وصلت إلى 35 سنة، ودفن في مدينة بورصة في تربة والده عثمان، وإلى جوار ولده سليمان.

كان أورخان حريصًا على تطبيق مبادئ العدل والسماحة التي أرساها الإسلام، ولذا دخل عدد كبير من غير المسلمين في الإسلام في عهده، وخدموا في الجيوش العثمانية، وقد جنى ثمرة هذا التسامح الذي سار فيه على نهج والده عثمان.

ظهر ذلك عندما سلّمه أفرنوز مفاتيح قلعته التي تطلّ على بورصة، معلنا إسلامه ودخوله تحت راية العثمانيين بمحض إرادته، فكان سببا في فتح بورصة التي استعصت على العثمانيين.

** بناء مؤسسات السلطنة

يعتبر المؤرخون أن لأورخان دورا محوريا في بناء جميع المؤسسات الضرورية للدولة.

فقد وطّد مجلس الديوان الذي يعد أعلى مقام إداري وعدلي وسياسي للدولة، وظهرت شخصيات لامعة فيه مثل أخيه الأمير علاء، وقونور آلب، وقره مرسل، وحاجي إلبي، والغازي أورنوس، وآقجه قوجه.

شكّل أورخان جيشا دائما من الشباب أطلق عليه اسم "يايا" أي المشاة، وجيشا آخر من الفرسان، وعيّن قاضيا للجيش باسم "قاضي عسكر" في عمل غير مسبوق، سار عليه الحكام العثمانيون من بعده.

ويعتقد العديد من المؤرخين أن نواة الانكشارية تشكلت في عهد السلطان أورخان، بما لهذه المؤسسة العسكرية من باع كبير في الفتوحات العثمانية اللاحقة.

وظهرت في عهد أورخان بن عثمان، أول مؤسسة تعليمية عالية في إزنيك بعد أن فتحها، وهي من أبلغ مظاهر اهتمامه بالتعليم.

كان أورخان عقليةً فذة مرتبة منظمة، ومن خلالها فتح الطريق أمام العثمانيين للولوج عبر البوابة الأوروبية، لتتوالى من بعده الإنجازات التاريخية للدولة العثمانية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!