ترك برس

منذ إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية التركية الأخيرة، خصوصاً عدم حسم السباق الرئاسي من الجولة الأولى وقرار تنظيم انتخابات إعادة في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، ومعظم النقاش في تركيا وعنها يدور حول العوامل التي يمكن أن تؤثر في اتجاهات التصويت وبالتالي في نتائج الإعادة.

وفي مقدمة هذه العوامل المرشح الثالث في الجولة الأولى، مرشح "تحالف الأجداد" اليميني سنان أوغان، حيث حصل الأخير على نسبة 5.1 % من الأصوات بواقع مليونين و800 ألف صوت، وبما يتجاوز الفارق بين أردوغان وكليجدار أوغلو في الجولة الأولى (زهاء مليونين و600 ألف صوت). دفع ذلك إلى تقديرات من قبيل أن أوغان قادر على حسم نتيجة انتخابات الإعادة إن دعم أحد المتنافسين، وسماه البعض -بناء على هذا التقدير- بـ"صانع الملوك".

وواضحٌ أن الرجل حريص على تقديم هذه الصورة عن نفسه، فكرر أكثر من مرة هو وسياسيون من تحالفه، أنه هو من حال دون حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، وأنه القادر على فعل ذلك في الإعادة. وبناء على هذه الثقة الكبيرة، فقد قدم أوغان شروطاً عالية السقف جداً للمرشحَين بحيث يعلن دعمه لمن يتجاوب معها منهما، في مقدمتها مناصب تنفيذية مثل نائب الرئيس وحقائب وزارية، إضافة إلى وعود بسياسات معينة تتعلق بمكافحة الإرهاب وترحيل السوريين إلى بلادهم وغير ذلك.

وبناء على هذا التصور، فقد التقى كليجدار أوغلو مع رئيس حزب النصر أكبر أحزاب "تحالف الأجداد" أوميت أوزاغ، لنقاش إمكانية إعلان دعم أوغان لكليجدار أوغلو دون أن يصدر عن التحالف أو أوغان نفسه أي تصريح واضح بهذا الشأن. ورغبةً في جذب الكتلة التصويتية للمرشح اليميني، فقد انتهج كليجدار أوغلو خطاباً حاداً تجاه السوريين في حملته الانتخابية للإعادة في سياق عدّه كثيرون تحريضياً.

فهل فعلاً سنان أوغان سيكون "صانع الملوك" في تركيا وسيحدد هو، بموقفه ودعمه، من سيكون الرئيس المقبل للبلاد؟

لا نتفق مع هذا الطرح، فتقديرنا أن وزن الرجل مبالغ فيه جداً، وتأثيره أقل بكثير من أن يحسم نتيجة الإعادة. ولئن كان رفْعُ الرجل سقف التوقعات بخصوص نفسه مفهوماً في إطار الحملة الانتخابية وحسابات الإعادة ومنطق السياسة، إلا أن إصرار بعض التقديرات السياسية والخطاب الإعلامي والأطراف الخارجية على ذلك يبدو أمراً سطحياً أو غير مفهوم تماماً على أقل تقدير.

ففي المقام الأول، لا نعتقد أن سنان أوغان راغب في الاصطفاف مع أحد الطرفين، أردوغان وكليجدار أوغلو، ودعوة أنصاره للتصويت له. بل هو أقرب للبقاء على الحياد والامتناع عن الاصطفاف بشكل واضح، فمشروع الرجل سيتحول قريباً لمحاولة قيادة تيار قومي في البلاد أو التيار القومي ككل، لا سيما مع تقدم رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، في السن، والمشاكل التي قد تواجه رئيسة "الحزب الجيد" ميرال أكشنار بعد الانتخابات.

وفي ظروف مثل هذه، وبعد الانتخابات المصيرية التي مرت بها البلاد، لا يمكن الجزم بمسار التيار القومي ومصيره وزعامته. كما أن التيار في حالة صعود وتوسع في البلاد، كما أشرنا في المقال السابق، وقد رفع رصيده في الانتخابات الأخيرة كما ازداد عدد الأحزاب التي تمثله، بما يغري بمحاولة قيادته أو ادعاء ذلك.

وبالتالي فإن الصورة الأنسب لأوغان هي أن يكون الأمين على التيار القومي وتوجهاته ومبادئه وثوابته، بعرضها على المتنافسَيْن وتقييمهما بناء على ذلك، وليس صورة من "يتاجر بمطالب القوميين" من أجل منصب أو مكسب مؤقت.

ثم إن سنان أوغان غير منتمٍ إلى أي حزب سياسيٍّ اليوم، بعد أن كان قيادياً في الحركة القومية وأُخرج منه، ثم كان قيادياً في "الجيد" وأخرج منه، وبالتالي فهو لا يملك زمام من صوتوا له ولا يضمن قرارهم أمام صناديق الاقتراع. تقديرنا أن غالبية الأصوات التي حصل عليها أوغان أصوات احتجاجية، أي غير راغبة في التصويت لا لأردوغان ولا لكيجدار أوغلو، فضلاً عن أنصار محرم إنجه الذين توجهوا له بعد انسحاب الأخير.

وبالتالي، فبافتراض دعوة أوغان أنصاره إلى التصويت لأحد المرشحَيْن المتنافسين، فإن غالبية هؤلاء سيفضلون مقاطعة الاقتراع، بينما قد تتوزع شريحة قليلة منهم على كليجدار أوغلو وأردوغان، وهنا تبدو فرص الأخير أفضل نسبياً بالنظر إلى وجود شريحة يمينية -من أنصار حزب النصر- صوتت لأوغان لن تصوت لكليجدار أوغلو، بسبب تعاونه مع "الشعوب الديمقراطي". بيد أن هذه الشريحة الثالثة المشار إليها، القومية الآتية من حزب النصر، قد لا تتجاوز نسبتها 2 % من الأصوات، وبالتالي فإن أثرها سيكون محدوداً في الإعادة، لا سيما إذا ما توزعت كما سلف ذكره.

وعليه، فإن سنان أوغان لن يكون ذا أثر ملموس ومؤثر في انتخابات الإعادة، فضلاً عن أن يحدد من سيفوز بها، خصوصاً أن النتيجة قد تُحسم بنسبة أكبر من حجم التصويت له في الجولة الأولى. ذلك أن ثمة عوامل أخرى مؤثرة في المعادلة تخدم فرص الرئيس التركي وقد توسع الفارق بينه وبين كليجدار أوغلو وتحسم النتيجة لصالحه، في مقدمتها تراجع نسبة المشاركة في جولة الإعادة، والفارق الكبير في نتيجة الجولة الأولى بين الرجلين، وفوز تحالف الجمهور الحاكم بأغلبية البرلمان، فضلاً عن ارتفاع معنويات معسكر أردوغان وتراجع معنويات معسكر كليجدار أوغلو.

ولذلك فقد التقى أردوغان وأوغان، لكنه استبق اللقاء بعدم تفضيله أسلوب التفاوض أو المساومة، في إشارة إلى مطالب أوغان الكثيرة وسقفها المرتفع جداً. والسبب أن أردوغان لا يشعر بحاجة مُلحة لدعم أوغان له، ويسعى فقط لتحييد موقفه أو ضمان عدم وضعه كل ثقله خلف كليجدار أوغلو على أقل تقدير. 

في المقابل، يبدو كليجدار أوغلو مستميتاً للحصول على دعم أوغان، بسبب حاجته لكل صوت وأي صوت. ولذلك فقد غيّر خطابه ونبرته في حملة انتخابات الإعادة لمغازلة الأصوات اليمينية التي اختارت أوغان في الجولة الأولى، وهي محاولة قد تخسره بعض من صوتوا له سابقاً دون أن تضمن له دعم أنصار أوغان بالكامل.

ولذلك، ختاماً، فسنان أوغان ليس صانع ملوك ولن يكون هو من يحدد الرئيس المقبل للبلاد، حتى ولو اختار دعم أحد المرشحَين علناً ودعا أنصاره إلى التصويت له. لكن خطابه عالي السقف مفهوم ومتوقع في إطار الحملة الانتخابية الحالية والحسابات السياسية المستقبلية المتعلقة به وبالتيار القومي في البلاد.


**مقال تحليلي للكاتب والباحث سعيد الحاج، نشره موقع "عربي بوست" الإخباري.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!