أ. د. محمد مرعي مرعي - خاص ترك برس

كي يتم فهم دوافع الهيجان الروسي (سلطة بوتين وملحقاته) على تركيا ينبغي معرفة التركيبة النفسية للحاكم وتاريخ حياته وتدرّجه بالحكم ومدى اكتسابه الخبرات والمهارات في إدارة نظم حكم الدولة، ومدى انجازاته في الواقع الاقتصادي والاجتماعي، بالمقارنة مع الدول الأخرى التي تواكبت خططها التنموية الناجحة مع وجوده في سدة الحكم، ونخص بالذكر تركيا.

ولد بوتين عام 1952 في ليننغراد (سان بطرسبرغ)، وتخرج من كلية الحقوق من جامعتها عام 1975، وأدى خدمته العسكرية في جهاز أمن الدولة ( ك ج ب)، وعمل مخبرا في ألمانيا الشرقية بين 1985-1990، ثم تولى منصب مساعد رئيس جامعة ليننغراد للشؤون الخارجية (الأمن) عام 1990، ومستشارا لرئيس مجلس مدينة ليننغراد ورئيس لجنة الاتصالات الخارجية (الأمن) في البلدية عام 1991، ثم النائب الأول لرئيس حكومة مدينة سان بطرسبرغ عام 1994، ثم نائب مدير الشؤون الإدارية في الرئاسة الروسية عام 1996، ونائب مدير ديوان الرئيس الروسي ورئيس إدارة الرقابة العامة (الأمن) في الديوان عام 1997، ونائب مدير ديوان الرئيس الروسي عام 1998، ومدير خدمة الأمن بروسيا الفيدرالية عام 1998، ورئيس حكومة روسيا الاتحادية عام 1999، ثم اختاره الرئيس الروسي يلستين عام 2000 رئيسا بالوكالة لروسيا. وما زال حتى تاريخه يحكم روسيا. توضح هذه النبذة أن بوتين أمضى كل حياته الوظيفية موظفًا في (أجهزة الأمن أو نائب مدير)، وكلا الوظيفتين تولّدان برمجة عقلية تملؤها الحقد لكل من له وظيفة القيادة التي يطمح للوصول إليها موظف الأمن كونه يمضي حياته بتقديم التقارير إليها والرغبة بالوصول إلى منصب قيادي بأية وسيلة، ومن ثم إزاحة كل من ساهم بإيصاله إلى موقعه الوظيفي عبر قتله أو سجنه أو تهجيره أو توريطه ماليا وفضحه، أو بأي وسيلة أخرى كي لا يتم كشف تاريخ رجل الأمن الانتهازي والوصولي والطرق التي اتبعها وضحاياه وفساده ووصوليته وغير ذلك.

من يتذكر كيف استبعد بوتين كل زملائه الذين ساعدوه للوصول إلى حكم روسيا يتقين من سلوكيات الغدر والحقد التي يكنها رجل المخابرات لكل من حوله حين يصل إلى الحكم (ونتذكر كسوريين كيف سلك حافظ الأسد المسلك نفسه، وكذلك كافة أمثاله من الحكام العسكريين والأمنيين العرب).

بالمقابل، ولد (رجب طيب اردوغان) عام 1954 في إسطنبول وأمضى طفولته في محافظة ريزة على البحر الأسود ثم عاد إلى إسطنبول بعمر 13 عاما ونشأ في أسرة فقيرة وساعد والده في العمل كي يؤمن نفقات دراسته، وبدأ لاعب كرة قدم شبه محترف عام 1969، ثم انضم إلى حزب الخلاص الوطني في نهاية عقد 1970، ثم عاد إلى حزب الرفاه بعد السماح بالحياة السياسية في تركيا عام 1983 في محافظة إسطنبول، وترشح للنيابة فيها 1989 وفشل، وفي عام 1994 ترشح أيضا للنيابة في اسطنبول وفاز بانتخابات عمدة مدينة إسطنبول، وفي عام 1998 تم سجنه جراء مواقف سياسية في وجه الحكم العسكري بتركيا لمدة 10 أشهر، وفي عام 2001 أسس حزب العدالة والتنمية وفاز حزبه بانتخابات البرلمان، ثم فاز أردوغان بانتخابات النيابة عام 2003، ثم انتخب رئيسا للحكومة التركية عام 2003، ثم انتخب رئيسا للجمهورية التركية عام 2014 بنسبة 52% من أصوات الشعب التركي.

بالعودة إلى العنوان وتحليل الهيجان الروسي ضد تركيا بعد حادثة اسقاط الطائرة الروسية في الأجواء التركية. نبين أن بوتين استلم السلطة معينا من قبل يلستين الرئيس المخمور على روسيا كلها، ثم أجرى هو نفسه كرئيس معين بالقوة انتخابات شكلية على طريقة جمهوريات الوراثة العربية والموز في أمريكا اللاتينية عام 2000، أي قبل تولّي اردوغان وحزب العدالة والتنمية بسنتين (وطبعا سنتين لهما قيمة كبرى في حياة الأمم). وخلال فترة حكم بوتين وقبله يلستين انخفضت مرتبة روسيا إلى الحضيض على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي من المرتبة الثانية كقوة عالمية أيام الاتحاد السوفيتي إلى مرتبة يندى لها جبين الحكام وتستحق الشفقة.

لعل المقارنة بين روسيا وتركيا تعكس عقدة الفشل الاقتصادي والاجتماعي لدى سلطة بوتين على روسيا، مقارنة بتركيا التي حققت نجاحات مذهلة اقتصاديا واجتماعيا في عهد أردوغان، وتوضح الأرقام اللاحقة دوافع ذلك الهيجان الروسي ضد تركيا عبر مقارنة نتائج التنمية في البلدين في عهدي (بوتين) و(أردوغان):

- على الصعيد الاقتصادي في عام 2015: تعد الولايات المتحدة الأولى على صعيد الناتج القومي 17,968 بليون دولار، وروسيا بالمرتبة 13 وناتجها 1,235 بليون دولار، وتركيا ناتجها 722 بليون دولار، وللتذكير كوريا الجنوبية ناتجها 1,392 بليون دولار، (روسيا تشغل ربع مساحة العالم، والدولة الأولى عالميا في احتياطيات الثروات المعدنية بما فيها النفط والغاز وإنتاجه وتصديره!!!)، وتعكس الموازنة التقديرية التي تعد محرك خطط التنمية الشاملة في عام 2014 خير دالة: الولايات المتحدة: 3,5 بليون دولار، وهولندا

430 بليون دولار، وروسيا 425 بليون دولار، وتركيا 200 بليون دولار، ونسبة التجارة الخارجية من الناتج القومي في روسيا 51,6% وكله تصدير نفط وغاز وخردة سلاح بينما حصة التجارة الخارجية التركية من ناتجها القومي 58% وكله منتجات صناعية وزراعية.

على صعيد مؤشرات التنمية البشرية: التي تعكس فاعلية أداء القيادة والحكومة في كل بلد فهي وفق تقرير 2014: روسيا بالمرتبة 57 عالميا وفي فئة الدول ذات التنمية المرتفعة ومؤشرها 77,. مقابل تركيا التي لا يوجد فيها لا نفط ولا غاز ولا ثروات كما هو حال روسيا ومساحتها أقل من 10% من مساحة روسيا فإن مرتبتها 69 ومؤشرها 76%  وفي نفس الفئة، في حين أن نسبة الثقة بالحكومة الوطنية في روسيا 45% من قبل سكانها بينما هي 53% في تركيا وهو ما أعلنته انتخابات البرلمان قبل شهر.

يفسر ما ذكرناه الدوافع الدفينة وراء هيجان روسيا بوتين على تركيا كون بوتين وملحقاته بالسلطة في روسيا يدركون جيدا فشلهم اقتصاديا ومجتمعيا بالمقارنة مع حكم حزب العدالة والتنمية الذي تولّى السلطة بانتخابات شرعية في تركيا بعد سنتين من حكم بوتين وأتباعه.

بالختام، هكذا هم حكام دول المافيات الذين يضمرون الغيظ لكل من يظهر في الدول الأخرى كمطور لبلده وبانيها وموصلها لمستويات تنموية رائدة، في حين أنهم كحكام يستخدمون الارهاب والقتل والفساد خلال سلطتهم لتخريب بلدانهم وتجهيل شعوبهم وتجييشهم نحو عدو خارجي مزعوم للهروب من استحقاقات واجبات التنمية الوطنية، وهم يتصرفون أمام الغير لا سيما دبلوماسيا بعنتريات ضباط الأمن التي لم يتخلصوا من سلوكياتها المشينة وكأنهم ما زالوا ضباطا في فروع مخابرات يديرون عناصرهم فقط بحركاتهم الانفعالية وأقوالهم الهوجاء وقراراتهم المدمرة. فعلا إنها ردة فعل روسيا بوتين الفاشلة اقتصاديا والحالمة بدولة عظمى.

عن الكاتب

أ. د. محمد مرعي مرعي

جامعة غازي عنتاب، كلية الاتصالات، قسم العلاقات العامة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس