أ. محمد حامد - خاص ترك برس

إذا كانت اليهودية واليهود يدينون بالفضل للإسلام والمسلمين في بقائهم على قيد الحياة بعد أن كانوا في طريقهم إلى هاوية النسيان بسبب اضطهاد المسيحيين لهم، كما يقول المؤرخ اليهودي دافيد فاسيرشتاين، فإن الدولة العثمانية كان لها دور كبير في هذا الفضل، وفي حماية اليهود وغيرهم من الأقليات الدينية  بما عرف عنها من تسامح مع أبناء جميع الديانات. ولا تزال كتب التاريخ تحتفظ بالأمر الذي أصدره السلطان بايزيد الثاني إلى أمراء الولايات العثمانية يأمرهم فيه بمساعدة اليهود الفارين من محاكم التفتيش الإسبانية، وحسن استقبالهم فكتب لهم "لا تعيدوا يهود إسبانيا، واستقبلوهم بترحاب كبير. ومن يفعل غير ذلك، ويعامل هؤلاء المهاجرين معاملة سيئة، أو يتسبب لهم بأي ضرر سيكون عقابه الموت".

وقد شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر عدة موجات من الهجرات من روسيا وبولندا والمجر ودول البلقان وشبه جزيرة القرم إلى داخل الدولة العثمانية. ويقدر المؤرخون عدد المهاجرين المسلمين الذين لجؤوا إلى الدولة العثمانية خلال تلك الهجرات بين أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين بأكثر من سبعة ملايين شخص. ولم تقتصر هذه الهجرات على المسلمين فحسب، بل ضمت أيضا اليهود والمسيحيين الأرمن.

جاء المصدر الأول لهذه الهجرات من شبه جزيرة القرم وبوجاك اللتين استولى عليها الروس خلال الحرب الروسية التركية 1774، وضمتا إلى روسيا بموجب معاهدة كوتشك كاينارجي، واستمرت هذه الهجرات حتى مطلع القرن العشرين. وجاءت موجة الهجرة الثانية إلى داخل الدولة العثمانية من القوقاز من داغستان وأبخازيا والشيشان وأنجوشيا وغيرها، فخلال الفترة من عام 1800-1859 كافح المسلمون في القوقاز ضد الغزو الروسي حتى تمكن الروس من قمع المقاومة وأسر الأمير شامل الداغستاني عام 1869 ما اضطر كثيرا من المسلمين إلى البحث عن ملاذ فلجؤوا إلى الأراضي العثمانية.

أما موجات الهجرة الثالثة فبدأت عام 1877 مع اندلاع أعمال العصيان في شبة جزيرة البلقان. وقد استمرت هذه الموجات من الهجرة دون توقف حتى سقوط الإمبراطورية العثمانية. وإلى جانب هذه الهجرات الكبيرة كانت هناك هجرات أخرى جاءت من كازان وبخارى في أسيا الوسطى ومن جزيرة كريت التي هجرها ما يقارب 450 ألف مسلم.

وكان من بين المهاجرين إلى الدولة العثمانية عدد كبير من اليهود الذين فضلوا العيش في كنف السلطان العثماني على العيش تحت حكم القيصر الروسي أو ملوك البلقان، كما يقر بذلك المؤرخون اليهود أنفسهم ومن بينهم  كمال قرباط في دراسته عن هجرات اليهود في الإمبراطورية العثمانية. ومن بين اليهود الذين جاءوا من شبه جزيرة القرم جماعات من طائفة اليهود القرائين ومن يهود القرماتشاك الذين يتحدثون اللغة التركية، ويهود المناطق الجبلية في القوقاز، وكانوا أيضا يتحدثون التركية.

وضم المهاجرون الوافدون من دول البلقان يهودا إسبان (من المتحدثين بالإسبانية وكانوا قد رحلوا إلى البلقان بعد سقوط الأندلس 1492 ومحاكم التفتيش) ويهودا رومانيين، ويهودا أشكنازيين (رحلوا إلى البلقان من ألمانيا والمجر في القرن الرابع عشر، وكذلك يهودا من النمسا وروسيا (الذين رحلوا إلى البلقان في القرن التاسع عشر). كما شملت جماعات المهاجرين يهودا من اليمن وبخارى والهند الذين سكنوا في المناطق الخاضعة لحكم العثمانيين.

وتجمع المصادر التاريخية على أن هذه المجموعات العرقية المختلفة كان لها تمثيل، بشكل أو بآخر، لدى السلطة العثمانية. واستمرت الهجرات اليهودية من بلاد البلقان وروسيا إلى الدولة العثمانية حتى بعد انتهاء الحرب بين العثمانيين والروس، وكان السبب في ذلك تعصب حكومات روسيا والبلقان للمسيحية الأرثوذوكسية، واضطهادها لأتباع الديانات الأخرى على الرغم من عقد مؤتمر برلين بعد عام واحد من انتهاء الحرب عام 1878.

في المقابل نظر الباب العالي إلى اليهود الذين بقوا في دول البلقان على أنهم من رعايا الدولة العثمانية، ومنحهم اللجوء دون أي شروط مثلهم مثل المسلمين، أضف إلى ذلك أن القانون الأساس أو أول دستور للدولة العثمانية وضع في عهد السلطان عبد الحميد الثاني 1876، أعطى مواطني الدولة العثمانية جميعا، بمن فيهم اليهود، وضعا قانونيا متساويا دون النظر إلى الدين أو العرق. وعلى سبيل المثال نصت المعاهدة التي وقعتها الدولة العثمانية مع مملكة صربيا التي كانت قد حظيت باستقلالها قبل ذلك، على منح اليهود حقوقا مساوية لسائر السكان مثلما كان معهودا إبان حكم العثمانيين لصربيا، وفي عام 1872 طلب الصدر الأعظم محمد باشا من حاكم إمارة الأفلاق – جنوب رومانيا- وإمارة مولدافيا حماية اليهود الذين يعيشون هناك. ويشير المؤرخ اليهودي ه.ج كوهين في كتابه عن يهود الشرق الأوسط إلى أن اليهود في هاتين الإمارتين اللتين كانتا خاضعتين لحكم العثمانيين تعرضوا لاعتداءات المسيحيين الأمر الذي أجبر كثيرا منهم على عبور نهر الدانوب والتوجه إلى أراضي الدولة العثمانية.

وعلى ذلك كان بمقدور اليهود الذين عاشوا في مناطق كانت خاضعة في السابق للدولة العثمانية أن يهاجروا بحرية إلى المناطق التي لا تزال خاضعة للسلطان العثماني، ومن ثم فعندما بدأت السلطات العثمانية  عام 1884 في فرض قيود على هجرة اليهود الروس إلى فلسطين، فإنها لم تفرض هذه القيود على اليهود العثمانيين، ولكن عندما بدأت المطامع الصهيونية في فلسطين بدأت السلطات في فرض قيود عليهم.

عاش اليهود العثمانيون آمنين مطمئنين في أرجاء الدولة العثمانية مقارنة باليهود الذين عاشوا في دول البلقان المسيحية وروسيا، وتمتعوا بقدر من الحريات يذكر بالعصر الذهبي لليهود في الأندلس، إلى حد أن الرحالة الفرنسي الفرنسي ألبرت رنوارد  كتب في عام 1881 يصف أجواء الحريات والتسامح التي نعم بها اليهود وغيرهم داخل الدولة العثمانية خلال زيارته لمدينة إسطنبول" تطبق شريعة النبي موسى في إمبراطورية السلاطين  على ما يقرب من 150 ألف يهودي... ويتمتع اليهود بالحقوق نفسها التي يتمتع بها المسلمون، ويدير شؤونهم الحاخام باشا الذي يمثلهم أمام الباب العالي.ويعيش اليهود حياة سعيدة في ظل السلطان،هرب اليهود من  اضطهاد الروس واليونانيين فمنحتهم تركيا الكرامة، وأثبت المسلمون الأتراك أنهم أكثر تسامحا وكرما من البلاد المسيحية ، ومن حين لآخر يعطون أوربا درسا في ذلك. وتبقى الحكومة العثمانية معروفة بالحرية الدينية وحرية الضمير للمواطنين، وفتحت الحكومة أبوابها لليهود الذين جاءوا من البلاد الأخرى والذين عملوا على تكوين جماعات مستقلة. وقد نشرت تفاصيل التقرير حول اليهود الذين كانوا يعيشون في الامبراطورية العثمانية في 1890 في "بوللتين" و"ڤالليانجا" وملخصه أنه في أواخر القرن التاسع عشر استمرت الامبراطورية العثمانية لتكون ملاذا لليهود الذين نعموا بحمايتها. .

وحتى عندما خرجت بعض المناطق عن سيطرة العثمانيين استمر اليهود في إعلان ولائهم للسلطان. وعلى سبيل المثال ففي عام 1894 وبمناسبة مرور 400 عام على طرد اليهود من إسبانيا، واستقبال السلطان بايزيد الثاني لهم، أرسل رئيس الطائفة اليهودية في مدينة كالافات (رومانيا حاليا) خطاب شكر إلى القنصل العثماني في المدينة. وفي هذا الخطاب عبر رئيس الطائفة عن امتنان اليهود لحكومة صاحب الجلالة الذي منحهم ملاذا عندما طردوا من إسبانيا، وعن الحرية التي تمتعوا بها طيلة 400 عام . وجاءفي خطاب مماثل أرسلته ما كانت تسمى الرابطة اليهودية الإنجليزية في لندن" رغبة منا في المشاركة في التعبير عن الولاء للسلطان الذي يتجلى في احتفالات يهود تركيا بمرور 400 عام على مجئ آبائهم بعد الطرد من إسبانيا، نتقدم لحضرة صاحب الجلالة السلطان بكل مشاعر التبجيل والتقدير على تعامله الليبرالي مع جميع رعاياه اليهود طيلة فترة حكمه.

يقول المؤرخ اليهودي كمال قرفاط استمرت العلاقات بين الدولة العثمانية ورعاياها السابقين من اليهود مدة طويلة من الزمن حتى بعد انتهاء خضوعهم للسلطة العثمانية. ولعل من الأدلة الواضحة على التعامل الليبرالي من قبل السلطة العثمانية تجاه رعايها السابقين من اليهود أنها سمحت لهم بالهجرة والسكن في أي مكان يريدون، كما تحملت خزانة الدولة نفقات هؤلاء المهاجرين مثل غيرهم من المسلمين والمسيحيين.  

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس