جلال سلمي - خاص ترك برس

أشرتُ منذ اليوم الأول للأزمة التركية الروسية التي نتجت عن إسقاط الجيش التركي إحدى الطائرات الروسية الحربية المخترقة لأجوائه السيادية، بتاريخ 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، عبر مقال بعنوان "لماذا لا تستطيع روسيا التمادي في تهديداتها ضد تركيا؟"، إلى أن تدهور العلاقات التركية الروسية محدود ولا يمكن له التعاظم لعدة أسباب أهمها الأسباب الاقتصادية.

قبل اندلاع الأزمة المذكورة إعلاه، حكمت العلاقات بين تركيا وروسيا عرى اقتصادية وثيقة على الرغم من الاختلاف السياسي بين الطرفين على صعيد الأزمتين السورية والأوكرانية، ويعكس التعاون التجاري والاستثماري المتبادل بين الطرفين حجم الارتباط الاقتصادي فيما بينهما، وقد رُصدت أبعاد العلاقات الاقتصادية الوطيدة على النحو الآتي:

ـ 19 مليار دولار قيمة الميزان التجاري بين الطرفين.

ـ 16 مليار دولار الواردات التركية من روسيا و3 مليار حجم الصادرات.

ـ استيراد تركيا ما يقارب 55% أي ما قيمته 26 مليار مكعب من الحجم الإجمالي للغاز الروسي.

ـ احتلال الروس المرتبة الثانية بعد الألمان من حيث السياح الأكثر زيارة لتركيا، إذ بلغ متوسط السياح الروس القادمين لتركيا بعد عام 2001 ما يقارب 4.2 مليون سائح روسي.

ـ استثمار مباشر وغير مباشر بين الطرفين بقيمة 4.9 مليار دولار.

ـ انخفاض أسعار النفط والغاز الطبيعي عالميًا وهذا ما أثر على الوضع الاقتصادي لروسيا بشكل كبير.

ـ العقوبات الأوروبية على الغاز الروسي وفقد روسيا لمصدر دخل ضخم، اضطرها للتفكير في نقل غازها نحو أوروبا الشرقية كبديل لتلك الغربية، ورأت روسيا من تركيا الجسر الأساسي في وصلها بأوروبا الشرقية من خلال مشروع "السيل التركي"، وبطبيعة الحال الموقع الاستراتيجي والسياسي الآمن لتركيا ساهما في إقناع روسيا بأن تركيا خيار صائب لمشروعها.

وإلى جانب العديد من الأبعاد الاقتصادية، هناك قواسم سياسية مشتركة تجبر روسيا على الاتجاه لإعادة تطبيع علاقتها مع تركيا، حيث تعلم روسيا أنه لا يمكن لها إيجاد حل مناسب للأزمة السورية دون التوافق مع تركيا التي ترى من "الاحتلال" الروسي لسوريا تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية، لا سيما عقب إمعان الطرف الروسي بدعم حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسعى لإقامة دولة كردية مستقلة في الشمال السوري.

تعلم روسيا أن تفاقم الخطر على المصالح الاستراتيجية لتركيا سيدفعها للانقضاض على التطورات الجارية في سوريا سياسيًا وعسكريًا، والتدخل التركي العسكري في سوريا يعني تدخل حلف الناتو المكلف بحماية تركيا أحد أعضائه، ولا يمكن لروسيا أن تتحمل هذا الخطر.

وفي ذات الإطار، تعي روسيا أن اتجاه علاقاتها مع تركيا للمزيد من التشاحن، سيدفع تركيا للتقرب الشامل مع أوكرانيا، وهذا يعني أنه سيكون هناك موطئ قدم للناتو في روسيا، وسيفضي ذلك أيضًا إلى توسيع رقعة السيطرة التركية على حوض البحر الأسود، وقد تكررت دعوات أردوغان للناتو إلى رفع مستوى قواته في حوض البحر الأسود، وذلك يعني تشديد الخناق العسكري على التحركات الروسية في الحوض، ومنطقيًا روسيا لا ترغب بحدوث ذلك.

وعلى صعيد ثقافي، تتبادل الدولتان العديد من الأنشطة الثقافية، إذ قُدر عدد الطلاب الأتراك الملتحقين بالجامعات الروسية بـ1000 طالب وفقًا لتقرير مؤسسة الإحصاءات التركية لعام 2015، أما عدد الطلاب الروس الموجودين في تركيا فقد بلغ عددهم 826 بحسب ما أوردته قناة بي بي سي في تقريرها "عدد الطلاب الأجانب في تركيا".

إضافة إلى ذلك، هناك تبادل ثقافي ملموس بين الشعبين من حيث التزاوج والإقامة المتبادلة، وتذكر الإحصاءات المسحية أن السياح الروس احتلوا المرتبة الثانية من حيث الوفود إلى تركيا والاستملاك بها بعد السياح الألمان، وكذلك ثمة عدد ملحوظ من السياح الأتراك الذين يفضلون روسيا وجهة لرحلاتهم السياحية.

وتشهد الدولتان تبادلًا ثقافيًا ملحوظًا من خلال المراكز والمهرجانات الثقافية التعاونية التي تقام أكثر من مرة خلال عام، وعلاوة على ذلك يوجد الكثير من منظمات المجتمع المدني التي تعمل بالتعاون التركي الروسي.

العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية المذكورة آنفًا كبحت جماح روسيا في التمادي في مقاطعتها لروسيا التي رغم تنتعها، إلا أنها أبدت في الآونة الأخيرة بعضًا من الليونة لإعادة العلاقات التركية الروسية إلى نصابها القديم، عقب قبول الكرملين تهنئة أردوغان ويلدرم بمناسبة اليوم الوطني لروسيا بحفاوة وتصريحًا على لسان المتحدث باسم القصر الرئاسي الروسي "الكرملين" "ديمتري بيسكوف" يؤكّد على رغبة روسيا بإعادة مسار العلاقات الثنائية بين البلدين إلى عهدها السابق.

وبالركون إلى هذا التصريح على أنه مؤشر على رغبة الطرفين الجادة في إعادة العلاقات إلى ما كانت عليه، تُذكر بعض المؤشرات الأخرى على النحو الآتي:

ـ اعتراف الجانب الروسي، على لسان رأس هرم السلطة "فلاديمير بوتين"، بوجود غلاء ملموس في الأسواق المحلية عقب مقاطعة البضائع التركية.

ـ عدم إخفاض روسيا لمستوى التمثيل الدبلوماسي؛ عشية إسقاط طائرتها، ينم عن نية روسيا الحقيقية في عدم رغبتها في إضفاء المزيد من التدهور على مسار العلاقات المتبادلة، وكما أن حضور السفير الروسي "أندري كارلوف" إلى حفل الإفطار الذي أقامه الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" بقصره، يدل على الرغبة الشديدة للتقارب، ولكن على ما يبدو الطرفان يبحث عن الصيغة المناسبة لبدء عملية التفاوض.

ـ تخفيف حدة التراشق الإعلامي بين الطرفين: مع بزوغ الأزمة بين الطرفين تحولت وسائل الإعلام إلى مدافع حادة لقذف الآخر وتقليب الرأي العام عليه، ولكن مع بدء الطرفين بالتواصل الدبلوماسي رفيع المستوى هدأت موجة الهجوم الإعلامي المتبادلة بين الطرفين.

تجمع بين روسيا وتركيا الكثير من المصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه المصالح بحد ذاتها أكبر مؤشر على عدم إمكانية استمرار الطرفين بالتباعد، والعودة إلى طاولة الحوار لتسوية الخلاف الذي ظهر فيما بينما عقب أزمة إسقاط الطائرة.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس