محمود عثمان - خاص ترك برس

عقد حزب الشعب الجمهوري مؤتمره العام الاعتيادي السادس والثلاثون، وأعاد انتخاب كمال كليجدار أوغلو، رئيسا له لفترة جديدة مدتها أربع سنوات. كليجدار أوغلو الذي يترأس الحزب منذ 22 مايو/أيار 2010, تمكن من التغلّب على منافسه محرّم إنجه نائبه السابق. لكن فوز كليجدار أوغلو للمرة الثالثة على التوالي, لم يكن كافيا لإنهاء الجدل القديم الجديد حول أزمة الزعامة داخل حزب الشعب الجمهوري. ذلك أن كليجدار أوغلو لم يصل لرئاسة الحزب إلا بعد عملية, غير اعتيادية بأيد خارجية, استبعدت رئيس الحزب آنذاك دنيز بايكال إثر فضيحة جنسية !. هذا يعني أن وصول كليجدار أوغلو إلى رئاسة حزب الشعب الجمهوري لم يكن نابعا من كفاءته ونضاله وإنجازاته, ولا بالطرق السياسية المعهودة.

كما هو معلوم فقد تأسس حزب الشعب الجمهوري عام 1923 بزعامة مؤسسه الغازي مصطفى كمال أتاتورك. وبالرغم من تبني الحزب للتوجه اليساري، إلا أنه عمليا أصبح معقلا لطبقة النخبة البرجوازية, ومعقد آمال الطبقة الثرية, ليس بسبب برنامجه السياسي والاقتصادي, إنما لأنه أضحى المنافس الوحيد لحزب العدالة والتنمية, الذي جاء بالطبقة الوسطى إلى الحكم من جديد.  

ومهما حاول حزب الشعب الجمهوري مؤخرا تغيير خطابه السياسي, ووعد باحتضان كافة شرائح المجتمع التركي, لكن جميع محاولاته باءت بالفشل, لأنها بقيت حبرا على ورق, ولم تجد طريقها للتنفيذ , بسبب النزعة "الكمالية" العلمانية الشوفينية, التي تناصب العداء لكل ما يمت لتراث المجتمع التركي وتقاليده بصلة.

منذ دخول تركيا مرحلة التعددية الحزبية, وإلى يومنا هذا, عجز حزب الشعب الجمهوري عن الوصول للسلطة وتشكيل حكومة بمفره. إلا من خلال حكومات ائتلافية, أو عقب الانقلابات العسكرية. عوامل عديدة ساهمت في هذا الفشل والإخفاق. دعونا نلقي الضوء على أهمها..

أهم العوامل التي تحول دون وصول حزب الشعب الجمهوري للسلطة :

أولا: أزمة الزعامة داخل الحزب

بعد وفاة مؤسس الحزب مصطفى كمال أتاتورك عام 1938 تم تعيين عصمت إينونو زعيما للحزب، بقرار حكومي!. حيث كان الشعب الجمهوري هو الحزب الحاكم والوحيد في الساحة السياسية التركية. استمر الحال كذلك حتى عام 1946، حيث انتقلت تركيا إلى نظام التعددية الحزبية، كشرط لدخول حلف الناتو. وعندما أجريت الانتخابات النيابة عام 1950 فاز منافسه الحزب الديمقراطي الذي كان يتزعمه عدنان مندرس بأغلبية ساحقة.

وفي عام 1972 انتخب بولنت أجاويد زعيما للحزب، فكان الزعيم الثالث في تاريخ الحزب . شكل بولنت أجاويد بعد انتخابات 1973 حكومة ائتلافية مع حزب السلامة الوطني الذي كان يتزعمه نجم الدين أربكان.

بعد الانقلاب العسكري عام 1980 قام القادة العسكريون بإغلاق الحزب مع بقية الأحزاب السياسية الأخرى، لكن أعيد فتح الحزب من جديد بعد 12 عاما (1992) برئاسة دنيز بايكال هذه المرة.

طبعا خلال هذه الفترة الانتقالية كان حزب الشعب الجمهوري, مثل بقية الأحزاب السياسية الأخرى,  موجودا في الساحة السياسية عمليا. لكن من خلال مسميات أخرى. منها SHP , SODEP , الحزب الاشتراكي الديمقراطي , الذي اضطر "أردال إينونو" لقبول رئاسته بعد فشل قيادة الحزب في انتخاب رئيس له, ليتم إقناع إينونو الابن بالرئاسة التي كان يزهدها من شدة الصراعات داخل الحزب!.

لم يتمكن دنيز بايكال من التحول من رئيس للحزب إلى زعيم وقائد له, لأسباب كثيرة, منها ما يتعلق بشخصية بايكال نفسه, التي تميل للتحزب و الشللية والعمل من خلال الدوائر الضيقة, وإقصاء المنافسين إلى جانب أسباب أخرى تعود لمشاكل وفجوات أساسية في قانون الأحزاب, الذي ينظم الحياة السياسية في تركيا, والذي يؤصل للفردية المطلقة في قيادة الأحزاب, ويسد السبل أمام المؤسساتية الديمقراطية الأكثر تشاركية. و لا يتسع المجال هنا في هذا المقال للخوض أكثر في هذا الموضوع الشائك.

في المحصلة تولى قيادة حزب الشعب الجمهوري رؤساء لا قادة زعماء, مما أضعف الحزب أمام منافسيه من الأحزاب الأخرى. خصوصا مؤخرا أمام حزب العدالة والتنمية الذي يتمتع زعيمه رجب طيب أردوغان بشخصية كاريزمية فذة.

ثانيا : القطيعة مع تراث المجتمع التركي ومعتقداته

مع تأسيس الجمهورية التركية والتحول التاريخي في النظام السياسي من السلطنة إلى الجمهورية, قاد مؤسس حزب الشعب الجمهوري الغازي مصطفى كمال أتاتورك سلسلة من التغييرات سميت انقلابات, شكلت المبادئ الستة للحزب الحاكم آنذاك. لم تكن هذه الانقلابات متصالحة مع تراث المجتمع والعرف السائد فيه. إنما كانت تدعو للتغريب بأسلوب ثوري.

وعندما تولى عصمت إينونو قيادة الحزب والدولة, ذهب لجهة تطبيق هذه الانقلابات بطريقة تعسفية جبرية, حيث تحولت أجهزة الدولة إلى أدوات تحارب القيم الدينية وكل ما يمت إلى تراث الأمة التركية بصلة.

لذا كان إرجاع الأذان إلى أصله باللغة العربية, وهو  شعيرة دينية رمزية بسيطة , كفيلا بكسب تأييد الأغلبية الساحقة للحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندرس, الذي كان سياسيا ليبراليا ولم يكن إسلاميا متدينا.

رغم جميع الخسارات الانتخابية التي مني بها أمام منافسيه , يصر حزب الشعب الجمهوري على نهجه بعدم التصالح مع تراث ومعتقدات القطاع العريض من الشعب التركي. ولئن قام الرئيس الحالي كمال كليجدار أوغلو ببعض الخطوات الخجولة بهذا الاتجاه, فقد بقيت خجولة غير كافية .

ثالثا : الافتقار للمشروع النهضوي البديل

بينما يقدم حزب العدالة والتنمية الحاكم الخطط التطويرية الخطة تلو الخطة والمشاريع التنموية المشروع تلو الآخر, ويتسلح بالإنجازات التي حققها, في مجالات عديدة, وانعكست على حياة المواطن التركي رفاهية واستقرارا, يتخلف حزب الشعب الجمهوري عن تقديم المشاريع النهضوية البديلة. ويكتفي بانتقاد ما هو قائم بأسلوب سلبي بحت.

خمسة عشر عاما من حكم حزب العدالة والتنمية كانت كفيلة وكافية لاستخراج حزب المعارضة الأم مادة ثرية قوامها عشرات القضايا من التعثر, وربما الفساد, وبعض التجاوزات التي وقع فيها الحزب الحاكم أو حسبت عليه. إذ هناك الكثير من التعثرات والإخفاقات والسلبيات التي حدثت خلال هذه الفترة الطويلة. لكن بدل أن يقوم حزب المعارضة الأم بالتوظيف السياسي لهذه السلبيات, يقع كعادته فريسة للاستقطاب السياسي, بترجيح الايدلوجيا على السياسة. وهذا ما يبعده عن الشريحة العريضة من الشعب التركي, المهتم بقوت يومه والبعيد كليا عن الايدلوجيا, و يجعله يراوح في مكانه عند حاجز ال 25% الذي لم يتمكن من تخطيه منذ عدة استحقاقات انتخابية.

رابعا : فقدان الثقة بالنفس بالوصول للسلطة

الوصول للسلطة هو الهدف الأساس لجميع الأحزاب السياسية , لأنه الطريق الوحيد الذي يمكنها من تطبيق برامجها السياسية. اللافت في برامج المتنافسين على قيادة حزب الشعب الجمهوري, وكذلك برنامج الحزب الانتخابي, اعتمادها استراتيجية سلبية قوامها التصدي لحزب العدالة والتنمية, والعداء المزمن لشخص الرئيس أردوغان فقط !.

يتجلى فقدان الثقة بالنفس عند حزب الشعب الجمهوري, في عجزه عن تقديم مرشح منافس للرئيس رجب طيب أردوغان, من داخل الحزب نفسه. حيث يذهب الحزب لجهة الاتفاق مع بقية أحزاب المعارضة على ترشيح شخصية مشتركة, كما حصل في الانتخابات السابقة, عنما تم ترشيح "أكمل الدين إحسان أوغلو" كمرشح مشترك للمعارضة. حاليا لا أحد من المتابعين للشأن التركي يرجح ترشيح كليجدار أوغلو نفسه للانتخابات المقبلة عام 2019 وهذا دليل آخر على فقدان الثقة بالنفس.

خامسا : الاقتصار على الإرث التاريخي

قد يكون من حق حزب الشعب الجمهوري اعتبار نفسه المؤسس للجمهورية التركية. لكن الاصرار على اعتبار الدولة التركية ملكا حصريا له, دفعه نحو النخبوية والفوقية,  والاستعلاء على المواطن العادي, والابتعاد عن همومه اليومية.

لقد كان حزب الشعب الجمهوري حزبا للشعب يوما ما, وهكذا كان يطلق عليه بين المواطنين. لكنه تحول مع الزمن إلى حزب " الستاتيكو" بسبب استناده إلى إرثه التاريخي فقط. ومقاومته جميع محاولات التغيير والتطوير التي كانت تنادي بها الأحزاب الأخرى.

هذه الأسباب وغيرها جعلت من حزب الشعب الجمهوري حزبا فئويا نخبويا جامدا يقاوم الحداثة والتغيير . فهل سيتمكن رئيسه الجديد كمال كليجدار أوغلو من تحقيق قفزة تاريخية نوعية يقود من خلال حزبه نحو السلطة والأمجاد التليدة؟!.