سعيد الحاج - عربي 21

في أحد مؤتمراته الصحافية مؤخرا، قال وزير الصحة التركي فخر الدين كوجا إن التوقعات بشأن المصابين بفيروس كورونا المستجد في إسطنبول أكثر من الواقع بثلاثة أضعاف. هذه الملحوظة، التي تسري على كامل تركيا كذلك، يعود جزء من الفضل فيها إلى الإجراءات التركية المبكرة بخصوص الرحلات الجوية والمعابر البرية، ثم للإدارة المتدرجة للحكومة لكامل الملف، والتي سارت بنجاح ودون هزات كبيرة في المجمل.

لكن يوم الجمعة الفائت حمل متغيرا سلبيا يناقض ما سبق، حين أعلنت وزارة الداخلية التركية عن حظر للتجوال في 31 محافظة تركية ليومين متتاليين. ولأن الإعلان أتى مفاجئا وقبل ساعة ونصف فقط من بدء سريانه، فقد تسبب ببعض التجمعات والاحتكاكات حرصا من الناس على شراء الخبز وبعض الحاجيات، ما يعني أن الخطوة قد تكون أتت بعكس الهدف المرجو منها تماما، وهو ما تسبب بقلق كبير في البلاد فضلا عن انتقادات المعارضة التي تزايدت.

وزير الداخلية سليمان صويلو تحمل كاملة المسؤولية عن القرار وتداعياته، بشخصه ووزارته، مقدما استقالته للرئيس، الذي رفضها بدوره، مشيدا بالأدوار التي لعبها الوزير بجدارة ومن بينها دوره في إدارة ملف مواجهة الجائحة.

من يعرف صويلو وديناميات السياسة التركية الداخلية يعرف أن الرجل ما كان ليستقيل بسبب انتقادات وجهتها له المعارضة. البُعد الصحي حاضر بالتأكيد تخوفا من خروج الأمور عن السيطرة بعد أن بقيت منضبطة نسبيا منذ تسجيل الحالة الأولى، وهنا تسجل للوزير شجاعته في تحمل المسؤولية، لكن ربط القرار بالحادثة بشكل كامل لن يكون دقيقا.

من المعروف أن حزب العدالة والتنمية يضم مؤخرا تيارات عدة في مؤسساته القيادية، وهي مختلفة عن التيارات الأيديولوجية أو السياسية التي رافقته منذ تأسيسه، وأن صويلو يعتبر ممثلا (إن لم نقل قائدا) للتيار القومي فيه. ومعروف أنه سبق وقدم استقالة غير معلنة لأردوغان من وزارة الداخلية في شباط/ فبراير 2018، ربطت بحالة التنافس والصراع داخل الحزب مع تيار وزير المالية، صهر أردوغان؛ برات البيراق، ورفضها أردوغان في حينها.

ولذلك يمكن القول إن استقالة صويلو أتت إلى حد كبير احتجاجا على ضغوط داخلية، أي داخل أطر الحزب الحاكم والحكومة، مورست عليه بعد إعلان حظر التجوال. ومما يعضد من هذه الرؤية ثلاثة تفاصيل مهمة:

الأول، أن حالة الفوضى الجزئية التي حصلت ضُخِّمت في بعض وسائل الإعلام، بما فيها المحسوبة على العدالة والتنمية وليس فقط المعارضة.

الثاني، تغريدات لكوادر قيادية، حالية أو سابقة، في الحزب عدَّت ما حصل تكرارا لما حصل مع داود أوغلو وما سمي حينها بمجموعة "البجعة".

الثالث، أن أردوغان لم يكن على علم مسبق بالاستقالة كما بدا من ردة فعله ورفضه لها، وبالتالي فالأمر لم يكن "تخريجة" إعلامية لإقالته بسبب تلك الهفوة.

قدم صويلو الاستقالة، فرفضها أردوغان، وعاد الأول ليمارس عمله على رأس الوزارة، فهل كان الأمر زوبعة في فنجان انتهت بلا أي ارتدادات؟

لا يبدو الأمر كذلك، بالنظر للشخص وكذلك للسياق.

فسليمان صويلو سياسي محنك ذو خلفية قومية- محافظة، وكان رئيسا لحزب معارض (الحزب الديمقراطي) قبل أن يستقيل من رئاسته إثر خسارته في إحدى الانتخابات، ثم يقنعه أردوغان بالانضمام للعدالة والتنمية عام 2012. وقد تقدم صويلو في المراكز القيادية في العدالة والتنمية والحكومة بشكل سريع وملحوظ، وصولا لمنصب وزير الداخلية في آب/ أغسطس 2016، أي بعد الانقلاب الفاشل مباشرة.

أثبت صويلو كفاءة في قيادة وزارة الداخلية، أولا في مكافحة الكيان الموازي وكذلك العمال الكردستاني داخليا، وثانيا في عدد من الأزمات مثل زلزال إيلازيغ وغيره، وثالثا في مكافحة وباء كورونا مؤخرا.

متسلحا بهذه السيرة الذاتية الناجحة، وكاريزما عالية، وتقدير كوادر العدالة والتنمية له، وتأييد القوميين لا سيما حزب الحركة القومية حليف العدالة والتنمية الكبير له، قدم الرجل استقالته لأردوغان، على غير رغبة من الأخير فيما بدا.

لهذه الأسباب، ولظروف الأزمة الراهنة التي لا تحتمل هزات كبيرة، ولاعتبارات وحدة الحزب، وبسبب الحملة الشعبية الكبيرة التي أيدت صويلو، ولأن بديله قد لا يملأ فراغه كما ينبغي، رفض أردوغان استقالته وأبقاه في منصبه.

في المحصلة، خرج صويلو من الأزمة أقوى وأثبت مكانا في الحكومة والحزب خصوصا في مواجهة التيار الآخر، وأثبت أنه يتمتع بشعبية مرتفعة في الشارع التركي وكذلك بين أنصار الحزب، وأكد أنه شخصية سياسية من الوزن الثقيل ورقم صعب بشكل شبه مستقل عن أردوغان، وهو ما يؤكد ما ذهبنا له سابقا أنه سيكون له دور (أو على الأقل يطمح له) في مرحلة ما بعد أردوغان.

في المقابل، إذا ما صدقت التقييمات بأن تيار البيراق قد حاول استثمار الخطأ الأخير لإقصاء صويلو، فإنه سيكون أقل قدرة أمامه في المستقبل، وقد يكون للأزمة تداعياتها على صعيد توازنات المحاور والتيارات داخل الحزب.

لكن الأهم أن أردوغان لم يكن سعيدا فيما يبدو بما حصل، فهناك الكثير من التفاصيل التي يمكن أن تكون مزعجة له، بدءا من إعلان الاستقالة دون استشارته، ومرورا بأنها وضعته أمام خيارات صعبة في ظل أزمة غير مسبوقة، وكذلك الصورة غير الإيجابية التي ظهر بها الحزب، وليس انتهاء بالشعبية الكبيرة التي أظهرها صويلو في الأزمة الأخيرة، وهو أمر غير محبب لأي قائد في ظل نظام رئاسي وعلاقات هرمية واضحة.

وبالتالي، يمكن القول إن الأزمة قد حُلَّتْ اليوم بعودة الوزير لعمله، لكن من المتوقع أن تكون لها تداعيات داخل الحزب والحكومة لاحقا وبعد أن تجتاز تركيا الأزمة، وقد يكون مؤتمر الحزب العام المرتقب المحطة التي تتبلور فيها هذه التداعيات بشكل واضح.

ذلك أن المؤتمر هو المحطة التي تختار الهيئات القيادية للحزب، وبالتالي سيكون انعكاسا لصراع التيارات القائم والذي يبدو اليوم لصالح صويلو، لكن الكلمة الأخيرة فيه تعود لأردوغان. لكن الأهم أن الحزب يناقش مؤخرا فكرة الفصل بين رئاستي الدولة والحزب، بما يعني البحث عن قائد للحزب، في ظل احتفاظ أردوغان برئاسة الدولة، وهو منصب يستحق منافسة شرسة بخصوصه ولا شك.

السياقات الحالية كلها تشير إلى أن أردوغان ما زال بحاجة لصويلو داخليا وفي الحكومة ولخدمة تحالفه مع الحركة القومية. لكن، من جهة أخرى، من الصعب انتظار خطوة منه باتجاه تحجيم نفوذ صهره، كما أنه لن يكون سعيدا بصعود نجم صويلو بهذه السرعة والتأثير.

وبالتالي، ستكون مهمة التوفيق بين التيارات الداخلية في العدالة والتنمية مهمة أصعب على أردوغان في المستقبل مما كانت عليه حتى اللحظة. بمعنى أن المؤتمر القادم للعدالة والتنمية سيكون مواجهة مباشرة بين التيارين (فضلا عن التيار المحافظ الأضعف حاليا) لقيادة الحزب.

انتصار صويلو سيكون إيذانا بوراثته قيادة الحزب بعد أردوغان، لكن انتصار الطرف الآخر سيعني خروج صويلو من الحزب. وحينها ستكون أمامه خيارات أخرى، منها قيادة حزب الحركة القومية الذي يعاني زعيمه دولت بهجلي من تقدم السن والمرض. وبالتالي، في كل الأحوال، هناك "حالة" في السياسة التركية اسمها سليمان صويلو ستبقى قائمة وقوية في مرحلة ما بعد أروغان، وسيكون أحد أهم وأقوى المرشحين للرئاسة من بعده، على أقل تقدير.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس