د. علي الصلابي - خاص ترك برس

إن مشاهد نبش وتخريب قبر الخليفة عمر بن عبدالعزيز (رحمه الله ورضي عنه)، قد هزت ضمائر المسلمين جميعاً. وإن هذه الأفعال من شأنها أن تمزق الأمة الإسلامية أكثر مما هي ممزقة، لما فيها من إساءة وإهانة لرموز الأمة ومصلحيها، واعتبر الخليفة عمر بن عبد العزيز من أبرز رموز التاريخ الإسلامي وقادته العظام، ولا يختلف على إنسانيته وتسامحه وعدله اثنان، وذلك لما يمثله هذا الخليفة من قيم التسامح الاجتماعي والديني والفكري التي سادت ربوع العالم الإسلامي في زمنه.  

لقد كان الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، قدوة حسنة في جميع جوانب حياته وتصرفاته وموافقه، لكل حاكم وولي أمر من المسلمين على امتداد أزمنتهم. فقد مثلت شخصيته الامتداد الطبيعي للعصر الراشدي بكل ما يحمله من قيم وروح إسلامية، وما يمثله من المنهج النبوي. ومن ذلك الجانب الاجتماعي وكل ما يهم مجتمعات المسلمين، فلم يغفل عمر بن عبدالعزيز الجانب الاجتماعي في رعيته، فقد اهتم بإصلاحه وعمل على بناء مجتمع مسلم صالح يهتدي بهدي الإسلام ويتمثل بأخلاقه ويستن بسننه، ونوضح هنا هذا الجانب من سيرة عمر بن عبدالعزيز في الفقرات التالية:

1 ـ اهتمامه بإصلاح المجتمع:

كان اهتمامه بإصلاح المجتمع كبيراً، وعمل على إزالة ما يتفشَّى فيه من المنكرات، وقد كتب في ذلك إلى أحد ولاته كتاباً طويلاً بليغاً، وفيه يقول: (أما بعد فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنِّقمات ما قمع فيهم أهل الباطل، واستخفي فيهم بالمحارم، فلا يظهر من أحد منهم محرَّم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوبات من السماء إلى الأرض على أهل المعاصي والمداهنين لهم، ولعل أهل الإدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم، فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزَّل من كتابه عند مَثُلَة أهلك بها أحداً نجَّى أحداً من أولئك، إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يُصبهم من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنِّقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظالم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين، أو أن يجعلنا مداهنين للظالمين.

وإنه قد بلغني أنه قد كثر الفجور فيكم، وأمن الفسَّاق في مدائنكم وجاهروا من المحارم بأمر لا يحب الله تعالى من فعله، ولا يرضى المداهنة فيه، كان لا يُظهِر مثلَه علانية قومٌ يرجون لله وقاراً ويخافون منه غيراً، وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم، ولا بذلك تمت نعمة الله تعالى عليهم، بل كانوا كما قال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ}  [المائدة: 54 ].

ولعمري إن من الجهاد في سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله تعالى بالأيدي والألسن والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الأباء، وإنما سبيل الله طاعته، ولقد بلغني أنه بطأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء التلاوم: أن يقال: فلان حسن الخلق قليل التكلُّف، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقاً، بل أولئك أسوؤكم أخلاقاً، وما أقبل على نفسه من كان كذلك، بل أدبر عنها، ولا سلم من الكلفة لها، بل وقع فيها، إذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمر الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) . ففي هذا الكتاب المهم يبين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سنة الله جل وعلا التي لا تتخلف، وهي: أن أيَّ مجتمع يجاهر فيه أهل الفساد بمعاصيهم، ثم لا ينهاهم أهل الصلاح ولا ينكرون عليهم؛ فلا بد أن يصيبهم الله تعالى بإحدى ثلاث: أن يصيبهم الله بعذاب من عنده، أو أن يصيبهم بعذاب على أيدي من يشاء من عباده، وقد يكون هؤلاء من الظلمة الجبارين فينتقم الله بهم من العصاة الفجار، أو يصيبهم الله بالخوف والجوع والذل وأنواع النِّقم والمصائب.

ويبين عمر في هذا الكتاب أن السكوت عن أهل المعاصي المجاهرين ليس من عمل الصحابة رضي الله عنهم، بل قد وصفهم الله تعالى بالشدة والغلظة على المخالفين المجاهرين بالمعاصي، ويذكر أن من الجهاد في سبيل الله تعالى الغلظة على منتهكي محارم الله والإنكار عليهم بالأيدي والألسن وإن كانوا من أقرب الأقارب، وهذا التوسع في معنى الجهاد له أدلته الشرعية مثل قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ *}  [التحريم: 9]. وإنما يكون جهاد المنافقين بالإنكار عليهم والشدة معاملتهم. 

ويصحح عمر في هذا الكتاب مفهوماً خاطئاً عند بعض الناس، وهو وصفهم القاعد عن إنكار المنكر بأنه حسن الخلق قليل التكلف مقبل على نفسه، حيث يبين أن هذا سيِّئ الخلق، حيث يتعامل مع المخالفين بالسلبية وعدم المبالاة، مع أنهم بحاجة إلى الشفقة والرحمة، وإنما يظهر ذلك بمحاولة إصلاحهم، ويرد على قولهم بأنه قليل التكلف مقبل على نفسه بأنه لم يقبل على نفسه بمحاولة إنقاذها من النار ورفع درجتها في الجنة، بل أقبل على هلكتها، حيث إن السكوت عن الإنكار معصية يحاسب عليها مرتكبها، وقد تورده إلى النار، وإذا كان في مفهوم الناس أن الساكت قليل التكلف؛ فإنه قد تكلف أمراً عظيماً حيث خالف أمر الله تعالى ورسوله ﷺ بما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانت كتب عمر بن عبد العزيز كلها في إصلاح المجتمع كما جاء في خبر إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: ما كان يقدم على أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتاب من عمر إلا فيه رد مظلمة أو إحياء سنة أو إطفاء بدعة أو قَسْم أو تقدير عطاء أو خير، حتى خرج من الدنيا.

2 ـ تذكيره الناس بالآخرة:

خطب عمر بن عبد العزيز ذات يوم فقال: إني لم أجمعكم لأمر أحدثته، ولكني نظرت في أمر معادكم وما أنتم إليه صائرون فوجدت المصدِّق به أحمق، والمكذب به هالكاً. ثم نزل .

وهذه خطبة بليغة على قصرها، فإنها تذكرة حية بمصير الإنسان بعد الموت، فالذي يؤمن بالبعث بعد الموت وما قبله من عذاب القبر ونعيمه، وما بعد ذلك من الحساب والمصير إلى النعيم الدائم أو إلى الشقاء الدائم، ثم لا يعد العدة الكافية لذلك اليوم يعتبر حقاً أحمق؛ حيث لم يستعمل عقله في الإعداد لمستقبله بعد الموت مع إيمانه بما سيكون فيه. 

ومن خطبه في تذكير الناس بالموت والآخرة، فقد بين عمر في بعض خطبه أن الإنسان خلق للأبد ولكنه من دار إلى دار ينقل؛ قال عمر: إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار إلى دار تنقلون.

وقال في إحدى خطبه: يا أيها الناس، لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها، فعن قليل عنها تنقلون وإلى غيرها ترحلون، فالله الله عباد الله في أنفسكم فبادروا بها الفوت قبل حلول الموت، ولا يطل بكم الأمد، فتقسو قلوبكم فتكونوا كقوم دعوا إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة، فندموا على ما قصروا عند الآخرة.

وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن الموت والآخرة والاستعداد للقاء الله كثيراً في خطبـه ومواعظه رحمه الله.

3 ـ تصحيح المفاهيم الخاطئة:

قال عمر في إحدى خطبه: أما بعد أيها الناس فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عليكم يوم القيامة، فإن من وافته منيته فقد قامت قيامته، لا يستعتب من شيء ولا يزيد في حسن، ألا لا سلامة لامرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصياً، ألا وإن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم، ألا وإني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره، ثم قال: إنه لحبيب عليّ أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها ولا قوة إلا بالله . 

ففي هذه الخطبة يُذكِّر عمر بن عبد العزيز المسلمين بقرب يوم القيامة، فإن من وافته منيته قامت قيامته، فلينظر إلى الموت الذي قد يفاجئه في أية لحظة، وحينها لا يستطيع أن يعتذر من أعماله السيئة التي سوّد بها صحيفته، ولا يستطيع أن يستزيد من عمل صالح يبيِّض به صحيفته، ويندم حينما لا ينفع الندم على ما فاته في حياته يوم أن كان قادراً على التوبة النصوح والتزود بالعمل الصالح، ثم يبين أن السلامة كل السلامة من اتباع سنة رسول الله ﷺ، وهذا بيان لأحد عنصري العمل الصالح، وهما: الإخلاص لله تعالى ومتابعة السنة، وهو بهذا يعالج واقعاً لا ينقص العمل فيه الإخلاص، وإنما ينقصه اتباع السنة، حيث فشت البدع بعد انقراض عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفساد بعض الولاة الذين يحاربون بعض السنن التي لا تتفق مع أهوائهم.

ثم بيَّن أحد العواصم التي تعصم من انتشار البدع وفساد أمور الأمة؛ حيث قال: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله. فإذا كان بعض الولاة قد تسول لهم نفوسهم الأمارة بالسوء أو مجاملة الاخرين بأن يأمروا الناس بمعصية الله، أو يمهدوا السبل لذلك، فإنه لا طاعة لهم، وبهذا ينقطع سبب مهم من أسباب سريان تلك المخالفات، وهو ما لولاة الأمر من طاعة على الأمة، فإذا تحددت هذه الطاعة بطاعة الله تعالى لم يكن لهوى النفوس تأثير على انتشار الفساد في المجتمع وتصبح الكلمة لأهل الإصلاح.

ثم يبين أن ما جرى عليه العرف من اعتبار الهارب من إمامه الظالم عاصياً ليس له اعتبار في النظر الشرعي؛ لأن تصرفه هذا هو أحد الأسباب التي يتخذها للخلاص من الظلم، وأولى من يوصف بالمعصية من وقع منه الظلم، وكون عمر يبين هذا وهو في أعلى موقع من المسؤولية ـ كخليفة ـ دليل على تجرده من حظ النفس ومن العصبية للقرابة، وإخلاصه لله تعالى.

ثم يصف الواقع الاجتماعي الذي اختلطت فيه العادات بالدين والبدع بالسنن، ونشأ عليه أفراد المجتمع، وتربّى على توجيهه من أسلم من العجم، ومن هاجر من الأعراب حتى حسبوه هو الدين، وحينما يختلط العرف الاجتماعي فيتسرب إلى العرف الإسلامي بعض الأعراف الجاهلية؛ فإن ذلك يؤثر على تربية أفراد المجتمع وتتشربه قلوبهم ؛ لأن الأعراف الجاهلية تميل إلى تلبية أهواء النفوس وإن كانت منحرفة جائرة، فيصعب بعد ذلك على المصلحين أن يخلّصوا العرف الاجتماعي الإسلامي من تلك الأخلاط المتسرّبة المتراكمة على مر الزمن، لأن كل انحراف له أنصاره ومؤيدوه، وليس كل أفراد المجتمع يفهمون الأمور على حقيقتها، وحينما يقوم المصلحون بمحاولة التنقية يقوم دعاة السوء بتشويه إصلاحهم ودعوة الناس إلى البقاء على الموروثات، لأن كونها موروثات يعطيها في نظر بعض الناس شيئاً من القداسة، ولكن حينما ينبع الإصلاح من أعلى قمة في المسؤولية كما هو الحال في عهد عمر بن عبد العزيز؛ فإن نتائج الإصلاح تكون كبيرة وسريعة المفعول، لأن معه ما خوَّله الله تعالى من طاعة الرعية ما دام في طاعة الله تعالى، إلى جانب قوة السلطان المعهودة.

ووفق هذه النهج الكريم ذو الرائحة النبوية، تمكن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه من التأسيس لمجتمع صالح تصلح معه العباد والبلاد، ويسود معه الأمن والرخاء والعدل. فكان أن عم الخير والأمن على بلاد الخلافة كلها، وذلك ببركة تطبيق حكم الله وشريعته في عباد الله، والسير فيهم وفق خطة الإصلاح الاجتماعي تحت ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية.


المراجع:

1- علي محمد محمد الصلابي، الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار، المجلد الثاني، دار المعرفة، بيروت، 2008، ط2، ص 229:225.
2- ابن عبد الحكم، سيرة عمر بن عبدالعزيز، دار العلم للملايين، بيروت، 1967، ص 42، 43، 103، 106، 160.
3- عبدالعزيز بن عبدالله الحميدي، التاريخ الإسلامي، دار الأندلس الخضراء، جدة، 1998، ط1، ص 15، 16/122

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس