د. علي حسين باكير - عربي 21 

تدرّج أو -للدقة- تطور الموقف التركي من الغزو الروسي لأوكرانيا مع الوقت، لكنه ظل دائماً تحت عنوان الحذر والحياد الإيجابي مستنداً إلى ثلاث ركائز أساسية: احترام القانون الدولي، وعدم الصدام مع روسيا، وأخيراً إبقاء القنوات مفتوحة مع الطرفين حفاظاً على المصالح المشتركة معهما، كما لاستمرار الوساطة بينهما من أجل إطفاء الحريق المشتعل وعدم تمدده إقليمياً وقارياً وحتى عالمياً، ومن ثم العودة إلى طاولة التفاوض لإيجاد حلول سياسية للملفات والقضايا محل الخلاف.

إذن ظل موقف تركيا من الأزمة الروسية الأوكرانية متبنياً الحياد الإيجابي، وحذراً كي لا تقع أخطاء تحول دون بقائه في مربع يسمح له بالحفاظ على المصالح المشتركة مع طرفي الأزمة، كما على الاستقرار في المنطقة وعدم اتساع وتمدد الصراع، وبالتالي التمسك بأمل إنهاء الحرب بأقرب فرصة ممكنة وإبقاء الأفق مفتوحاً أمام تغليب الخيار السياسي والدبلوماسي على العسكري.

منهجياً، استندت المقاربة التركية للغزو العسكري والأزمة الروسية الأوكرانية بشكل عام إلى ثلاث ركائز أساسية أولها؛ احترام مبادئ القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق ذات الصلة، ولذلك جرى رفض الاعتراف بانفصال جمهوريتي دونتسيك ولوغانسك عن أوكرانيا، تماما كما تم رفض ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في العالم 2014، مع التأكيد دائماً على سيادة واستقلال ووحدة أراضي أوكرانيا.

من هنا أيضاً جاء الرفض التركي للغزو العسكري الروسي الخاطئ، كما قال الرئيس رجب طيب أردوغان مباشرة وأكثر من مرة، ومباشرة لنظيره الروسي فلاديمير بوتين، والحرب الزائدة وغير الضرورية والتي يجب إيقافها بأسرع وقت ممكن حسب تعبير الناطق باسم الرئاسة إبراهيم كالن.

احترام القانون الدولي يقف أيضاً خلف تفعيل تركيا اتفاقية مونترو 1936 التي تنظم عمل المضايق التركية (البوسفور والدردنيل) وتعطي أنقرة الحق في السيطرة الأمنية الكاملة عليها، ومنع مرور السفن الحربية عبرها في زمن الحرب، مع الانتباه إلى أن التنفيذ جاء كذلك حذراً ودقيقاً بمعنى أصحّ، حيث تم منع مرور السفن الحربية بشكل عام وليس فقط للدول المشاطئة للبحر الأسود، بما فيها طبعاً روسيا وأوكرانيا، ما يؤكد الرغبة في خفض وتيرة النزاع وعدم تطوره إقليمياً وعالمياً، كما عدم الظهور بمظهر المتصادم مع روسيا أو المنحاز ضدها، وإنما الاصطفاف إلى جانب القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار والمصالح المشتركة.

وهذه هي الركيزة الثانية في الموقف التركي، أي عدم الصدام مع روسيا أو الدخول في مواجهات سياسية واقتصادية وإعلامية وبالطبع عسكرية معها، وهذا يفسر أيضاً عدم إغلاق الأجواء التركية أمام الطائرات الروسية، كما تحاشي انضمام تركيا إلى العقوبات الغربية الصارمة ضدها، تماماً كما فعلت مع تلك التي فرضت بعد ضمّ شبه جزيرة القرم، والتي لم تلتزم بها دول أوروبية بارزة أيضاً.

قصة العقوبات الحالية ضد روسيا أيضاً تواجه خلافات وتبايناً، ورأينا مثلاً كيف رفضت الدول الأوروبية الالتزام بقرار الرئيس الأمريكي جو بايدن الخاص بمقاطعة قطاع الطاقة الروسي (النفط والغاز) دفاعاً عن مصالحها، وحرصاً على عدم الذهاب إلى النهاية مع موسكو، ما يمثل في الحقيقة جوهر وروح الموقف التركي الخاص برفض الانضمام إلى العقوبات الأخيرة والتي قبلها.

في هذه الجزئية تحديداً نلمس حذرا وربية تجاه الغرب الذي ترك تركيا وحدها بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية في العام 2015، واحتلال روسيا لسوريا الذي تم بضوء أخضر أو على الأقل برتقالي من أمريكا والدول الأوروبية، بينما تخلى حلف الناتو تماماً عن تركيا في مواجهة الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها في تلك الفترة، بل أقام -ولا يزال- علاقات مختلطة معها بما في ذلك تقديم بعض أعضائه السلاح لجماعات إرهابية موصوفة استهدفت الأمن والمصالح التركية، علماً أن أمريكا رفضت أيضاً تزويد تركيا بمنظومات مضادة للصواريخ في ظل احتدام الأزمة الإقليمية ثم امتلكت الوقاحة لفرض عقوبات عليها عندما دافعت عن مصالحها وأمنها وقامت بشراء المنظومة البديلة المناسبة (أس 400) من روسيا تحديداً.

وليس بعيداً عن روح الموضوع، يبدو لافتاً تقرب زعيم حزب الشعب وزعيم المعارضة كمال كليتشدار أوغلو من الغرب، والتماهي مع سياساته بربطه مباشرة بين إعادة اللاجئين السوريين رغم عدم توفر الظروف الملائمة لذلك، والتطبيع مع نظام بشار الأسد، وإعادة منظومة أس400 إلى روسيا.

وفي سياق الموقف التركي من الأزمة الروسية الأوكرانية، نلمس كذلك حذرا وحتى ريبة من التركيز الإعلامي الغربي على طائرات بيرقدار التركية المسيّرة، وتأثيرها الإيجابي في المقاومة الأوكرانية الشرسة والناجعة بمواجهة الجيش الروسي، وهو حق يراد به باطل، خاصة مع الحديث الإعلامي وكأن المسيّرات منحة أو مساعدة تركية لأوكرانيا، علماً أنها بيعت بشكل تجاري بحت تماماً كما جرى مع بولندا وأذربيجان وقطر والمغرب وإثيوبيا، وقبل ذلك وبعده فهي لم تعد تركية بمجرد بيعها وباتت خاضعة تماماً لتصرف ملاّكها الجدد، كما يقول وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو دائماً، ونفس الأمر ينطبق طبعاً على الأسلحة الروسية بيد نظام بشار الأسد ومليشيات إرهابية أخرى تحاربها تركيا.

أما الركيزة الثالثة في الموقف التركي فتتعلق بالوساطة مع الطرفين واستمرار القنوات المفتوحة المستندة إلى مصالح وثقة راسخة معهما، علماً أن أنقرة بين عواصم قليلة تتحدث إلى الطرفين وتمارس الوساطة بجدية ومسؤولية؛ لا بصورة دعائية أو على هيئة ساعي البريد، كما يفعل مثلاً رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت.

أخيرا وباختصار، كان الهدف الأهم لتركيا ولا يزال هو وقف إطلاق النار والتخلي عن الخيار العسكري، واعتماد الحلول السياسية والدبلوماسية للخلافات الجدية بين الجانبين. ولا شك أن الإعلان عن اللقاء بين وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا ولأول مرة منذ الأزمة، على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي السنوي، يمثل نجاحاً لافتاً وخطوة مهمة باتجاه تحقيق الهدف الأسمى الذي يتماشى مع ركائز الموقف التركي، كما مع مصلحة الجيران الثلاثة في هذه المنطقة الحساسة من أوروبا والعالم.

 

 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس