محمود القاعود – خاص ترك برس

في 18 آذار/ مارس 2011م انطلقت الثورة السورية، عقب موجة من الثورات بدأت في تونس ومرت بمصر واليمن وليبيا.

كان من المتوقع أن يواجه نظام بشار الأسد التظاهرات الشعبية الغاضبة بالقوة المميتة، لكن لم يكن في مقدور أي إنسان التنبؤ بما ستؤول إليه الثورة السورية، منذ كتابة أطفال درعا عبارات منددة ببشار الأسد "إجاك الدور يا دكتور" و"الشعب يُريد إسقاط النظام" و"ارحل يا بشار"، وهي الشعارات المستوحاة من ثورة مصر الأكثر ثراء في الشعارات والهتافات والكوميديا!

واجه الأسد الثورة بالقوة القاتلة، ولعبت أذرعه الإعلامية علي نغمة "الفتنة الطائفية" و"العصابات الإرهابية المسلحة" و"المؤامرة الكونية" بينما سوريا تئن من حكم الأسرة الأسدية منذ نصف قرن من الزمان، حتي صارت تفوق دول أمريكا اللاتينية أو ما تسمى "جمهوريات الموز" في عصورها الفاشية الإجرامية.
المثير للدهشة والاستغراب في الثورة السورية هو موقف الإدارة الأمريكية الذي يعد "نفاقا" صريحا بداية من تصريح أوباما: لا مكان لبشار الأسد في مستقبل سوريا.. وحتى "استخدام الكيماوي خط أحمر"!

قصف بشار شعبه بالكيماوي، وقتل أكثر من مليون وهجّر عشرة ملايين وأدخل ميليشيات حزب الله وعناصر الحرس الثوري الإيراني والشيعة الأفغان وفرق القتل الروسية لذبح الشعب السوري، والإدارة الأمريكية تلتزم صمت الرضا مراعاة لمصالح إسرائيل، إذ ثمة تخطيط أمريكي لجر تركيا جارة سوريا للاكتواء بالنيران المشتعلة منذ خمس سنوات.
فتدفق مئات الآلاف من اللاجئين سنويا يُرهق تركيا ويشغلها، كما أن تحرش روسيا بالمجال الجوي التركي وقصف التركمان في سوريا يؤشر بحريق قد يشب في أي لحظة، كذلك توريط تركيا في حرب مع داعش، لتنتقل داعش للعمق التركي وتنهار السياحة التركية، وبموازاة كل هذا دعم دويلة الأكراد الممتدة من سوريا والعراق وحتى شرق وجنوب تركيا.

قد يحتج البعض بأن أمريكا ترى في تركيا حليفا وبينمها اتفاقيات ومصالح مشتركة، ولا يُعقل أن تسعى الولايات المتحدة لتدمير تركيا، وردا علي هذا الطرح أقول.. البرجماتية الأمريكية لا تعرف سوى مصلحتها، والدليل علي ذلك كثير حتى مع عملائها من الطواغيت العرب الذين خدموها علي مدار عقود تخلت عنهم واستبدلتهم بآخرين، وأمريكا ترى في تركيا مركز ثقل في العالم الإسلامي، وإضعاف تُركيا وتفكيكها من ضمن مخططات أمريكا لا سيما عقب تجربة حزب العدالة والتنمية، وعودة الهوية الإسلامية للجمهورية التركية بعد عقود من حكم العلمانية المتطرفة.

وللتدليل علي هذا الطرح، نذكّر بما فعله سليمان ديميريل الرئيس التركي الأسبق مع حافظ الأسد، عندما احتضن الأخير عبدالله أوجلان ودعم المنظمات الكردية الانفصالية، فهدد ديميرل الأسد بعبارات شديدة، وتقول بعد الروايات أن ديميريل حدث الأسد باللغة الإنجليزية ناعتًا أم الأسد بـ"العاهرة"! وأن الأسد لم يجرؤ أن يرد بل رضخ لكل ما قيل له وطرد المنظمات الكردية وأوقف تمويلها عقب التهديد التركي باجتياح سوريا في بضعة ساعات!

بالطبع لا يُمكن لأمريكا أن تؤيد أردوغان إن تدخل لإسقاط بشار الأسد ، فبشار هو الورقة الرابحة لأمريكا، فهو يحافظ علي أمن إسرائيل وسلم الجولان ويُصدّر القتل والموت في كل لحظة، وهو ما يتماهي مع خطة هينري كيسينجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق بشأن تحديد نسل المسلمين عن طريق الأمراض والحروب.

ولعله من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلي ما كتبه البروفيسور أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء التركي، في كتابه الهام "العمق الاستراتيجي.. موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية": "ليس ثمة فرق تقريبا من حيث البنية السيكولوجية والتداعي المنطقي بين اشتباكات جرائم الشرف بين العائلات وصدامات الأطراف المتنازعة في الحروب الأهلية؛ فالذي يوجه ضربة للطرف الآخر، يعيش في حالة من القلق لتوقعه أن يتلقي ضربة مقابلة جديدة. أما الذي تلقي الصفعة فإنه يتحين الفرصة الأنسب للانتقام. وبدلا من أن تضطلع القوي الخارجية التي تعرف هذه السيكولوجية وتتابعها عن قرب بدور من شأنه حل الأزمة، تعمل علي استمرار حالة التوازن التي ليس فيها منتصر نهائي، بغية الحفاظ على فرص التدخل التي يوفرها لها إدامة التدافع والصراع؛ وهو ما يتحقق أيضًا بالدعم اللوجيستي الذي يتم توفيره للطرف المتراجع من منطلق أن من يمتلك القدرة علي اللعب فوق رقعة الشطرنج يحمل أهمية أكبر من قطع الشطرنج نفسها، أما الخاسر الأكبر في هذه  اللعبة، فمن يتوهم بأنه قد اقترب من النصر كلما دارت الحلقة المفرغة بسرعة أكبر، بينما تخسر شعوب المنطقة المزيد من طاقاتها ومواردها مع كل دورة من دورات الصراع" أ.هـ.

يتضح بجلاء أن أمريكا وحلفاؤها في أوروبا يريدون استمرار النزيف المتواصل  في سوريا حتي تصل ألسنة اللهب لتركيا وابقاء هذه الحالة أطول فترة ممكنة، وهو ما يُحتم علي تركيا إحباط هذا المخطط بدعم الثوار ليتمكنوا من تحرير دمشق من الديكتاتور الفاشي الذي نشر الموت بكل مكان.

عن الكاتب

محمود القاعود

صحفي وروائي مصري وعضو اتحاد الصحفيين العرب


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس