ترك برس

يقول المؤرخ البريطاني بيتر مانسفيلد إنه بعد نهاية حرب القرم (1853-185) تعهدت القوى المسيحية الأوروبية في معاهدة باريس باحترام استقلال وسلامة الأراضي الإقليمية للإمبراطورية العثمانية وبالتدخل المسلح إذا لزم الأمر لحمايتها (كانت الأطماع الروسية هي الماثلة آنذاك)، وقد كان ذلك بمثابة دعوة لتركيا للانضمام للجوقة المدعوة "أوروبا" مع أن تلك الدعوة جاءت بأسلوب آمر.

كانت القوى الأوروبية في واقع الأمر، تمنح لنفسها الحق في التدخل في الشئون الداخلية للإمبراطورية إذا ما شعرت بأدنى تهديد لمصالحها الاستراتيجية من أي منافس كان، وفي الوقت نفسه كانت تلك القوى تعبر عن وقوفها وبشكل جوهري إلى جانب الحكومة التركية (في رأي الكاتب) ومباركتها محاولة أن تلبس الإصلاحات الداخلية ثوباً غربياً.

ونقل الكاتب الفلسطني محمد شعبان صوان، في مقال له تحت عنوان "الدولة العثمانية وفخ المجتمع الدولي وضرورة الاعتبار بالماضي وإيجاد البديل الحامي"، عن المؤرخ العربي زين نور الدين زين قول إن معاهدة باريس كانت انتصاراً دبلوماسياً لبريطانيا لاسيما البند السابع الذي نص على ضم الباب العالي إلى "المجموعة الأوروبية للمشاركة في الأنظمة والقوانين العامة"، وعلى احترام وحماية "استقلال الإمبراطورية العثمانية ووحدة أراضيها".

النتائج:

1- أن انضمام الدولة العثمانية إلى “المجتمع الدولي” كان مطلب الدول الكبرى الاستعمارية.

2- أن هذا المطلب تحقق في زمن الضعف والتراجع والهزيمة التي عانت منها الدولة العثمانية.

3- أن تحقق هذا المطلب ترافق بشكل عضوي مع التدخل في شئون الدولة العثمانية لحماية المصالح الغربية.

4- أن هذا التدخل كان بذريعة “حمايتها” من الأخطار المحيطة وتحقيق إصلاحات داخلية ولكن وفق وصفات خارجية.

ولهذا لم يكن من العجيب أن يستنكر المخلصون هذه الفكرة كما جاء على لسان الزعيم المصري الكبير مصطفى كامل باشا في كتابه المسألة الشرقية عند حديثه عن حرب القرم حيث قال إن الدول الأوروبية خدعت الدولة العثمانية بمنحها امتيازين هما:

1- التعهد بضمان استقلال الدولة العلية وسلامتها “وأرتنا الحوادث أن دول أوروبا نفسها سلخت من الدولة العلية جملة بلاد باسم هذا المبدأ نفسه”.

2- الاتفاق على جعل الدولة العلية دولة أوروبية وقبولها في المجتمع الأوروبي “ولم تر الدولة لهذا الامتياز فائدة ما، بل كانت نتيجته جر البلايا عليها بازدياد تداخل أوروبا في شئونها الداخلية” .

ولمن يرون أن انضمامنا اليوم “للمجتمع الدولي” انتصار لقضايانا رغم أنه لم يحل قضية واحدة لصالحنا، ولم يتحقق أي مطلب نهضوي باتباع وصفاته سوى العمالة لمصالحه، وكان المطلوب منا دائماً أن نصادق على انتهاك حقوقنا بذريعة “إرادة المجتمع الدولي” و”الشرعية الدولية”، مع أنها إرادة الكبار وشرعيتهم وحدهم فقط، وما بقية الأمم سوى أصابع للتوقيع ، هذه دعوة للنظر في ذلك التاريخ لبرهة، وهذا بالطبع يستلزم البديل وليس الحديث في فراغ، والبديل هو وجود الكيان الكبير الجامع لنا لأنه وحده القادر على مقاومة إملاءات “المجتمع الدولي” والاستغناء عنه وحماية حقوقنا ومصالحنا من قتلة الغرب ولصوصه، أو على الأقل التصدي لهم، أما كيانات التجزئة فهي بطبيعتها مجرد توابع وأقصى أمانيها أن تكون ذيولاً تلهث للحصول على رضا الكبار حين تخلينا عن موقعنا بينهم بزوال الخلافة الإسلامية وصرنا مجرد أتباع لهم.

****************

الهوامش

-بيتر مانسفيلد، تاريخ الشرق الأوسط، النايا للدراسات والنشر، دمشق، 2011، ص 110.

-زين نور الدين زين، الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سوريا ولبنان، دار النهار للنشر، بيروت، 1977، ص 30.

-مصطفى كامل باشا، المسئلة الشرقية، مطبعة اللواء، القاهرة، 1909، ج 1 ص 204

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!