جميل إرتم - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس

تظهر بيانات البطالة الصادرة في شهر آذار/ مارس، وإنجازات فائض الميزانية التي أعلن عنها يوم الأربعاء الماضي، أن الاقتصاد التركي حقق تقدما كبيرا، وأن لديه قدرة فريدة من نوعها على الرغم من جميع الظروف الخارجية السلبية. ومن الأهمية بمكان التراجع الشديد في معدلات البطالة، ولا سيما البطالة في القطاعات غير الزراعية، وارتفاع عائدات الضرائب في الميزانية مقارنة بالعام الماضي. ومع ذلك، تحتاج تركيا حتما إلى خارطة طريق جديدة لمواصلة التحسن والحفاظ على هذه الصورة الاقتصادية. تكشف هذه البيانات أن الاقتصاد التركي صار قريبا جدا من فرصة كبيرة ينبغي انتهازها.

تحضر الدول المتقدمة للثورة الصناعية الرابعة (4.0) للتغلب على الأزمة الحالية، حيث إنها ستواجه منافسة كبيرة من الدول النامية، ولا سيما من الصين وكوريا الجنوبية. وفي إطار برنامج الصين (صنع في الصين 2025) مهّد مجلس الدولة الصيني الطريق للمنافسة وقواعد التسويق والدولة. وقد أنتجت الجامعات والمستثمرون الآلاف من براءات الاختراع ذات الجدوى التجارية.

تؤمن كوريا الجنوبية بأن الثورة الصناعية الرابعة ستتحقق من خلال المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم. وعلى غرار الصين بدأت كوريا الجنوبية برنامج 3.0 للتصنيع والابتكار، وهو برنامج له أهداف محددة. وإذا تمكنت كوريا الجنوبية من تحقيق هذه الأهداف بسهولة، فإن ما يقارب 10.000 من الشركات الكورية الصغيرة والكبيرة ستنتج الأساور الذكية بمستويات عالمية وتقنية فائقة في عام 2020. وهذا مسار جديد للتنمية تمهد فيه الدولة الطريق من أجل السوق.

لا نرى في الغرب نموا مماثلا لذلك الذي نراه في آسيا والمحيط الهادي. وحتى في الولايات المتحدة لم يفلت الاقتصاد من خطر الركود، أما أوروبا فهي حالة ميؤوس منها بالمعنى الحرفي للكلمة. أخذت الحكومات الأوروبية مع ألمانيا زمام المبادرة، وأنفقت مليارات اليورو على الاستراتيجية الصناعية 4.0، لكن جهودها لن تكون مجدية إذا لم تدمج مع إنتاجية العمالة المؤهلة. لا يزال الاقتصاد الأوروبي بعيدا جدا عن إيجاد قوة العمل الشابة المؤهلة التي يمكن أن تعمل بأجور منخفضة حتى تتمكن من منافسة آسيا، بل على العكس تماما  يتناقص سكان أوروبا الشباب، وقد صاروا غير مؤهلين مقارنة بآسيا.

نشهد صدامات في الشوارع في فرنسا تزامنا مع فعاليات كأس الأمم الأوروبية. وقعت هذه الصدامات في الواقع نتيجة لمناهضة خطة الدولة لإنقاذ القطاعات التقليدية التي تنخفض فيها الأرباح باستمرار. ويهدف قانون العمل الجديد في فرنسا إلى تحقيق إصلاحات لزيادة الإنتاج والربح في القطاعات التقليدية المحتضرة التي لا تستطيع منافسة الدول الآسيوية.

في الماضي كان بمقدور أوروبا أن تضمن النمو، وأن تهرب من الأزمات من خلال استغلال الأسواق المحلية أولا، ومن ثم استعمار المناطق البعيدة بدءا من محيطها القريب. لم تعد أوروبا قادرة على النمو عبر حماية الشركات والمنتجات بفرض جمارك مرتفعة، والاستيلاء بلا حدود على المواد الخام، واستيراد العمالة الفقيرة من مختلف الدول.

بالنظر إلى المنتخب الوطني الفرنسي سنجد أنه يتكون بشكل كامل تقريبا من لاعبي كرة القدم المهاجرين من أصل أفريقي. آباء هؤلاء اللاعبين هم من بنوا فرنسا الحالية في ظروف غير إنسانية. والآن لا تملك أوروبا هذه العمالة الرخيصة، ولا تملك فرصة التنافس مع آسيا كما كان الأمر في الماضي، حيث إن آسيا تسير في مصاف أوروبا. وفي ظل هذه الظروف لا تريد أوروبا أن تتكامل تركيا مع آسيا، بل إن المؤيدين لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي من أعضاء حزب المحافظين يروجون لدعاية تقول "لا تقلقوا لا يمكن أن تنضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبي".

ماذا ينبغي أن تفعل تركيا في هذه الظروف؟ أنجزت تركيا بالفعل التصنيع التقليدي الذي يعتمد على السوق المحلي، ويجب عليها الآن أن تهدف إلى تطوير جديد ومسار للنمو يتطلع لأن تكون قاعدة تكنولوجية ومالية في المنطقة، وتسيطر اقتصاديا على المناطق النائية وراء حدودها. بمقدور تركيا أن تضمن الهيمنة الاقتصادية- التي حققها الغرب بالإفقار- من خلال مسار شامل للكسب.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية نمت اليابان من خلال تصدير السلع والتكنولوجيا إلى دول المحيط الهادي المجاورة، ووضعت بذلك مسارا فريدا من نوعه للتنمية. وأما اليوم فإن فهم اليابان للتنمية الذي يقوم على أساس المكسب المشترك له دور كبير في التنمية الآسيوية.

ولأن تركيا تملك البنية السكانية القادرة والسوق والصناعة، فإنها قد تختار مسارا مماثلا في المستقبل القريب مع أوروبا الشرقية والشرق الأوسط والقوقاز وأفريقيا. ومن ثم فإن حل المشكلات مع روسيا والمملكة العربية السعودية، وحل القضية الفلسطينية، بدءا من فك الحصار على قطاع غزة، فضلا عن تحسين العلاقات التركية الإسرائيلية، كل ذلك يعد أمرا جوهريا لتنمية إقليمية بعيدة المدى في الفترة المقبلة، وهو أكثر أهمية لروسيا والسعوية وإسرائيل من تركيا. وهذه الدول إما أن تختار الاستقرار والتنمية أو الأزمات والحروب التي ستنتقل إليها.

إن المدى الذي ذهبت إليه تركيا بعيدا عن الفهم الاقتصادي الاستعماري التقليدي الذي عفا عليه الزمن، جعل من إسطنبول أهم مركز لمشاريع البنية التحتية في العالم، على الرغم من استمرار الأزمة المالية العالمية. وهذه تجربة مهمة.

عن الكاتب

جميل إرتم

كاتب في صحيفة ستار


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس