رامي الجندي – خاص ترك برس

تخوض تركيا منذ مساء الجمعة الماضية الخامس عشر من تموز/ يوليو أحداث الانقلاب الخامس في تاريخها والذي يختلف عن الانقلابات السابقة بفشله في لحظاته الأولى؛ ويعود ذلك لعدة أسباب ليس المقال مخصص لحصرها أو تعدادها؛ إلا أن الوثائق التي تم كشفها بعد موجة الاعتقالات التي قامت بها أجهزة الأمن الخاصة والموالية للرئيس التركي؛ كشفت عن مخطط كبير لإرجاع الجمهورية التركية إلى مآسي حكم العسكر؛ كما ألقت بمؤشرات على احتمال تورط دول كبرى وإقليمية في مخطط الانقلاب.

تعتبر تركيا لموقعها الاستراتيجي هي صمام الأمان -إن صح التعبير- فيما يتعلق بالأوضاع المأساوية في منطقة الشرق الأوسط؛ وبخاصة الأزمة السورية؛ فهي وبالتوافق معها وعبرها باستطاعتها الحد من موجات اللاجئين السوريين وتدفقهم إلى القارة الأوروبية بغض النظر عما آل إليه اتفاق إعادة القبول الذي تم التوصل إليه مع الاتحاد الأوروبي بالخصوص؛ بالإضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لقاعدة انجيرليك العسكرية الجوية بالنسبة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي؛ ودورها في ضرب تنظيم الدولة في سوريا والعراق؛ حتى أن واشنطن لم تستطع احتمال إغلاق القاعدة بتعليمات الرئيس التركي بعد ورود شبهات إلى الحكومة التركية حول خروج طائرات ساندت الطائرتين التركيتين اللتين ضربتا البرلمان التركي ومواقع رسمية تركية أخرى؛ وهو ما حدا بواشنطن مطالبة أنقرة بإعادة فتح القاعدة أمام ضربات تنظيم داعش؛ وكأن رسالة واشنطن هي التقليل من أهمية محاولة الانقلاب؛ إلا أن رد الرئيس التركي كان بخطوة أكثر تصعيدًا تمثلت في قطع التيار الكهربائي عن القاعدة ومنع الدخول إليها أو الخروح منها؛ مما يدلل على أن معلومات موثقة ربما وصلت إلى الرئيس بخيوط موامرة داخل القاعدة العسكرية التركية.

إن دولة بحجم تركيا ودورها الإقليمي والدولي؛ من أجل أن ينجح فيها عسكريون معارضون لنظام حكم الرئيس رجب طيب أردوغان بانقلاب عسكري؛ من الأهمية بمكان حصولهم على دعم سياسي وعسكري لوجستي من دول خارجية معارضة لسياسات تركيا والدور المنوط بها كما يراه ويخطط له الرئيس أردوغان. وفي استعراض سريع للتصريحات التي صدرت عن الإدارة الأمريكية في لحظات الانقلاب الأولى، فقد وصفت السفارة الأمريكية في أنقرة ما يحدث في تركيا بالانتفاضة الشعبية، وهو أمرٌ كفيل بتسليط علامات استفهام كثيرة حول سرعة إصدار وتوقيت البيان من راعية الحريات والديمقراطية في العالم بجانب عناوين الصحافة الأمريكية والغربية المبتهجة بالإنقلاب.

وبدلًا من الوقوف ومساندة الحليف الهام أمام انقلاب عسكري عليه؛ فقد دعا وزير الخارجية الأمريكي تركيا إلى عدم التمادي في فرض النظام بعد كسر الحكومة التركية حدة الانقلاب العسكري وسيطرتها على مفاصل ومؤسسات الدولة؛ لكن التصريحات من مسؤولين أمريكيين وأوروبيين انتقلت إلى توضيح أسباب فشل الانقلاب لتنتقل بعدها خطوة أخرى تمثلت في لغة تهديد رداً على مطالبات تركية بتفعيل عقوبة الإعدام بحق الانقلابيين؛ قائلة إن تطبيق عقوبة الإعدام يعني وقفاً تاماً لمحادثات عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي؛ حيث أن هذا التهديد صدر عن أكثر من مسؤول أوروبي في نفس الوقت؛ إلا أن الرد التركي كان التجاهل التام لهذه التهديدات والتصريحات مما يوحي بأن القادة الأتراك يتجاهلون طرف ومضمون التهديد.

لكن الأهم في المرحلة المقبلة على صعيد العلاقات الدولية؛ كيف سيكون شكل السياسة الخارجية التركية إزاء الدول التي مالت إلى تأييد الانقلاب العسكري يشكل علني إلى أن ثبت فشله أو تلك التي تمارس ابتزازاً لما ستقبل عليه تركيا ضد الانقلابيين؟

مرت السياسة الخارجية التركية ما قبل الانقلاب بسياسة ترميم العلاقات مع كل من روسيا بعد قطيعة دامت ثمانية أشهر ومع اسرائيل بعد قطيعة استمرت ست سنوات على إثر خلاف عسكري مع كلٍ منهما؛ كما أن علاقات أنقرة مع واشنطن شابها الكثير من التراجع بسبب الفيتو الأمريكي الرافض لتحركات تركيا الهادفة إلى تأمين حدودها مع سورية؛ بالإضافة إلى الخلاف حول حزب الاتحاد الديمقراطي السوري الكرد  الإرهابي حسب تصنيف تركيا والذي تعتبره واشنطن غير ذلك؛ كما شهدت علاقت أنقرة وأبوظبي عودة لطبيعتها بعد تجاوز الأخيرة لحدودها في تركيا؛ في الوقت الذي أبدت فيه أنقرة عبر عدد من مسؤوليها التوجه نحو تدشين علاقات خاصة مع النظام المصري على مستوى خدماتي بين البلدين دون الاعتراف بسلطة النظام المصري؛ برغم ما سبق فإن أعداء تركيا بلا شك كثيرون؛ كما أن عداءهم ليس معارضة في النهج السياسي بل لجذور السياسات التركية السياسية والاقتصادية والأمنية فيما يتعلق بأحداث المنطقة؛ ورؤيتها للمكانة التي يجب أن تكون فيها عما يريد الغرب أن تكون فيها.

كما أن الموقف التركي الحالي من الغرب وأمريكا يتشكل حسب التأييد في أحداث الانقلاب أو الرفض له؛ والذي جاء بنص بيان العسكر للحفاظ على العلمانية التي هددها الرئيس أردوغان بالأيديولوجيا التي يرفعها حزب العدالة والتنمية؛ وحده حلف شمال الأطلسي الذي يسعي لبقاء تركيا قوية مستقرة بسبب عضوية تركيا في الحلف منذ عام 1952؛ أدان المحاولة الانقلابية الفاشلة وهو ما بدا واضحاً من خلال اتصال الأمين العام للحلف يانس ستولتنبرغ في اتصالين هاتفيين مع الرئيس التركي معرباً رفض الحلف لمحاولة الانقلاب ودعمه للحكومة المنتخبة.

لكن الموقف التركي حالياً يبدو قوياً وثابتاً؛ وتأتي هذه القوة والثبات من المعارضة والمجتمع المدني والشعب التركي الرافض لحكم العسكر والعودة إلى حقبة الانقلابات بما خلفته ماضياً من كوارث ومآسي داخل تركيا وخارجها؛ كما أن غالبية كبيرة من الشعب والمثقفين الذين كانت تساورهم بعض الشكوك في مغالاة الحزب الحاكم في دور منظمة جماعة غولن في تأسيس كيان موازي للدولة يعمل لمصلحة أعدائها؛ أصبحوا على قناعة كبيرة بدورها وبصحة الاتهامات الموجهة إليها؛ وأن مسألة جلب زعيم الجماعة فتح الله جولن من منفاه الأمريكي ومحاكمته في تركيا أصبحت مسألة شرف وطني يتعلق بالدولة وبالقومية التركية؛ وهو الحاضنة والركيزة التي ستعتمدها تركيا في خطابها الخارجي.

ستستمر تركيا في سياستها الخارجية التركية على قاعدة الترميم وتوثيق العلاقات مع الدول التي رفضت منذ اللحظة الأولى الانقلاب العسكري في مقابل اتخاذ خطوات إلى الوراء مع تلك التي أيدت الانقلاب لاسيما فرنسا وألمانيا وبشكل عام الاتحاد الأوروبي؛ ولربما في الفترة القادمة يغض الأتراك حكومة وشعباً النظر –ولو مؤقتاً- عن انضمام بلادهم إلى اتحاد لم يقف معهم ضد الانقلاب على قيم الحرية والديمقراطية التي ينادي بها ليل نهار؛ ولاشك بأن الأيام القادمة ستحمل الكثير من المفاجأت على مستوى كشف خيوط المؤامرة الانقلابية وعلى شكل السياسة الخارجية التركية.

عن الكاتب

رامي الجندي

باحث في الفكر الإسلامي والنهضة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس