د. وائل مرزا - خاص ترك برس

منذ ثمانية عشر عامًا حُكِمَ على رجب طيب أردوغان، رئيس بلدية إسطنبول يومها، بالسجن أربعة أشهر بعدما قال أبياتًا من الشعر رأت فيها محكمة "ديار بكر" تحريضًا على قلب النظام العلماني وإثارة مشاعر الحقد الديني بين أفراد الشعب. وفي طريقه إلى السجن خاطب الرجل أنصارهُ بقوله: "وداعًا أيها الأحباب، وداعًا لوقت قصير، تهانيَّ القلبية لأهالي إسطنبول بعيد الأضحى، تهانيَّ القلبية للشعب التركي بعيد الأضحى، تهانيَّ القلبية للعالم الإسلامي بعيد الأضحى المبارك، متمنيًا لهم كل الخير، كما أهنئ أهالي هذه البلدة التي سأبقى ضيفاً فيها لمدة 120 يومًا". ثم أضاف قائلًا: "إنني لست ممتعضًا، ولا حاقدًا ضد دولتي، ولم يكن كفاحي إلا من أجل سعادة أمتي، وسأقضي وقتي خلال هذه الأشهر الأربعة في دراسة المشاريع التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة، والتي ستكون إن شاء الله أعوامًا جميلة، ولكن ذلك يحتاج منا جهدًا كبيرًا وعملًا شاقًا، وسأعمل بجدٍ داخل السجن، وأنتم اعملوا خارج السجن كل ما تستطيعونه. ابذلوا جهودكم لتكونوا معماريين جيدين وأطباء جيدين، وحقوقيين متميزين، أنا ذاهب لتأدية واجبي، واذهبوا أنتم أيضًا لتؤدوا واجبكم، إن الشعب يستطيع بتجربته التاريخية الواسعة أن يرى كل شيء ويقيم كل شيء بشكل صحيح، وما يجب عمله الآن ليس إعطاء إشارة أو رسالة إلى الشعب، وإنما الفهم الصحيح لما يريده الشعب".

بعد كل هذه السنوات، جاء وقت "إعطاء إشارة أو رسالة إلى الشعب" في تركيا، ومن قِبَلِ أردوغان نفسه. فلم يخيب الشعب ظن رئيسه، وكان له دورٌ أساسي في إحباط الانقلاب العسكري على الرجل وحكومته.

لكن هذا لم يكن ليحصل لولا أن أردوغان، وحزبه، وحكوماته، فَهِمت في الفترة الماضية "ما يريده الشعب"، وعملت على تحقيقه. لم يكن الشعب التركي يبحث عن شعارات يسمعها من نمط "الإسلام هو الحل"، فهذه شعارات لاتُطعمُ من جوع ولا توفر الأمن من خوف.

لم يكن ينتظر أن يرى تركيزًا على مظاهر الدين والتدين الخارجية ورموزه وإشاراته، لا على مستوى الأفراد ولا على مستوى الجماعة البشرية.

لم يكن يترقب من يحمل أحلامه المتعلقة بالحاضر والمستقبل، فيتلاعب بها بحيث يعيش، عملياً، في الماضي، بلغته ومفرداته وأسئلته وإجاباته، وكل خصوصياته الزمانية والمكانية.

لم يكن الشعب التركي يبحث عن مزيدٍ من رجال الدين والمشايخ وحاملي الشهادات الشرعية، وإنما كان بحاجة إلى من تحدث عنهم أردوغان في كلمته قبل السجن "معماريين جيدين وأطباء جيدين، وحقوقيين متميزين".

كان الشعب ينتظر من يحل له مشكلات البطالة والسكن والمواصلات والتلوث وانقطاع الماء والكهرباء، والفساد والإهمال الحكومي للمواطن، وتفشي مشاعر الكسل وخيانة الأمانة واللامسؤولية وفقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم.

وهذا ما ركز عليه أردوغان وحزبه وحكوماته بشكلٍ كبير لأكثر من عشرة سنوات. فتشكلَ الرصيد الذي يمكن الاعتماد عليه عند الحاجة.

لكن وقائع الأيام العشرة الماضية أظهرت أن ماجرى في تركيا منذ عقدين على الأقل، هو في حقيقته، مشهدٌ آخر من مشاهد التجربة البشرية التي تُصيبُ وتُخطئ، وتُحاولُ وتجتهد، وتَقوى وتضعف، وتتنازعها المشاعر الإنسانية التي تُصاحِبُ مراحل الخطأ والصواب والضعف والقوة.

ففي حين بقي أردوغان وبعض المسؤولون الأتراك يرددون أن الانقلاب انتهى بشكلٍ تام بعد اثتني عشرة ساعة، ثم بعد يوم، ثم بعد يومين.. تأكد من مجريات الأحداث أن ماجرى خلال الأيام الماضية، ومايجري حاليًا، وسيجري في الأسابيع والأشهر القادمة، يدل على أن ثمة "مشكلةً" كبرى لاتزال تخترق تركيا مجتمعًا ودولة أفقيًا بشكلٍ كبير. قد يكون إطلاق تلك الإعلانات صائباً من وجهة نظرٍ سياسية تكتيكية، لكن من الأرجح أن أصحابها يعلمون الآن حجم المشكلة، وثمة تاريخٌ ينتظر منهم أن يتعاملوا معها بشكلٍ صحيح.

لايصحﱡ هنا، منهجيًا وسياسيًا وحضاريًا، اختزالُ المشكلة التي نتحدث عنها في جماعة فتح الله غولن، ولا في مقولة تآمر قوى خارجية على تركيا ورئيسها، مهما كان نصيب هذه العناصر مما جرى. هذا جزءٌ من الحسابات فقط. وثمة جزءٌ آخر أكبر يتعلق بالعودة إلى الذات، الفردية والجماعية، لأصحاب التجربة التركية، والقيام بمراجعات تتعلق بتلك الذات دون غيرها، بكل مافي الوسع من قوةٍ وشجاعة وصراحةٍ مع النفس والشعب والتاريخ.

هل اختلت التوازنات الدقيقة في التركيز، مثلاً، خلال السنوات القليلة الماضية بين الشعارات والإنجاز؟ وبين مظاهر الدين ومقاصده الكبرى؟ وبين الحياة في الماضي في مقابل الحياة في الحاضر؟ وبين الأهلية والولاء؟ هل حصل خللٌ في حسابات الأدوار والمواقع بين الفرد والمؤسسة؟ وبين الحزب والدولة؟ وبين من يمثل "الأنا" ومن يمثل "الآخر"؟

هذه الأسئلة، ومثلها كثير، هي مما يُدرك الباحثون الحقيقيون عن الكمال في التجربة الإنسانية ضرورةَ طرحها على أنفسهم قبل غيرهم. ذلك أنهم يعلمون دقة التوازنات المتعلقة بها وأثرَها في التجربة من ناحية، وحقيقة كونهم بشرًا يُخطئون ويُصيبون من ناحية ثانية، وأخيراً، واقعَ أن الإجابة عليها هو منطلق تصويب التجربة واستمرارها، قبل الإشارة بأصابع الاتهام إلى كل ماهو خارجي. ولاتكتمل المعادلة إلا حين تحصل هذه الممارسة الصعبة في مواجهة أكثريةٍ صاخبة ترى في مضمون تلك الأسئلة ترفاً، أو غفلةً عن إدراك كيف يعمل هذا العالم في نهاية المطاف.

عن الكاتب

د. وائل مرزا

باحث في العلوم السياسية، مهتمٌ بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس