د. مصطفى حامد أوغلو - خاص ترك برس

كثرت بالآونة الأخيرة مقولة استدارة تركيا للثورة السورية، استخدمتها أقلام وتصريحات كُتًاب وصحفيين وسياسيين من العرب والسوريين، البعض استخدمها للنيل من الدور التركي ومشككًا به منذ البداية وكأنه وجد اليوم حجته لإثبات اتهامه، والبعض من المقربين لتركيا استخدم هذه العبارة كنوع من العتاب وخيبة الأمل، والبعض يرفض هذه المقولة جملة وتفصيلًا. كما استخدمها أيضًا كثير من الكتاب الاتراك العلمانيين والمعادين لسياسة العدالة والتنمية ك إتهام للحزب الحاكم  بتابعيته للمخطط الامريكي ومشروع الشرق الأوسط الكبير، كما ان بعض الكتاب المقربين من العدالة والتنمية وبعض أعضائه بدؤوا في الآونة الأخيرة استخدامها بشكل آخر وخجول بضرورة اعادة تقييم جديد للسياسة الخارجية وخاصة تجاه ما يحدث بسورية.

فهل هناك فعلًا استدارة في الموقف التركي على أرض الواقع...؟؟

أم أن هذا الحكم هو نتيجة طبيعية للتعويل الطفولي والتضخيم الزائد والفهم الخاطئ للدور التركي من قبل كثير من السوريين..؟؟

بداية أود أن اشير الى ان تهمة الاستدارة وانحراف البوصلة ليست جديدة على تركيا، وليست وليدة اليوم والفترة الأخيرة، وليست هي المرة الأولى التي تتعرض تركيا لها. فمنذ مجيء العدالة والتنمية للحكم، اتُهمت تركيا بأنها تستدير لأوروبا، وتُغير بوصلتها نحو الشرق والعالم الاسلامي، وتتخلي عن الركض للحاق بالقطار الأوروبي. واليوم أيضا هناك تصريحات مشابه لهذا النقد لكن مع اعتراف أن الاتحاد الأوروبي والغرب هو الذي رفض تركيا، ودفعها للبحث عن بدائل جديدة.

نعود لموضوع الاستدارة تجاه الثورة السورية، وهل هناك تغير في الموقف التركي أم لا..؟

قد لا أكون مبالغًا إذا قلت إنني سأكتب كلامًا شبيهًا بكلام كنت قد كتبته قبل سنتين تقريبا عن موقف تركيا تجاه الثورة السورية...

ولكي نفهم الموقف التركي بتجرد وواقعية، يجب قراءته بمهنية وعقلانية وبعيدًا عن العواطف والتمني والتغني باشعار وتاريخ وأمجاد الماضي. ورؤية الموقف التركي من خلال التسلسل التاريخي لما قبل الثورة، وفي بدايتها، وأثناء تحولها لثورة مسلحة، والانعطافات التي عاشتها، والمرحلة الأخيرة من الانكسارات والتشرذم والتشتت، وعدم نسيان الانقلاب العسكري الذي غير كثيرًا من المفاهيم والتفكير والنظرة المستقبلية للمنطقة على مستوى المواطن التركي والقادة الأتراك من حزب حاكم ومعارضة على السواء.

رغم أن الحزب الحاكم بتركيا يأتي من خلفية اسلامية متعاطفة مع المظلومين من الشعوب العربية والإسلامية، ورغم معرفتهم التامة والكافية لحقيقة الحكم الدكتاتوي الطائفي الوراثي في سوريا، لكنه حرص على إقامة علاقة مميزة مع النظام في دمشق، وصلت لدرجة عقد جلسات حكومية مشتركة لمجالس الوزراء بالتناوب في كل البلدين. ورغم كل هذه العلاقة المميزة والزيارات العائلية بين الاسد وطيب أردوغان لم تشفع بالحصول على عودة مشرفة لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين إلى سوريا إلا من خلال البوابة الأمنية التي أصر النظام عليها... كان ما يهم تركيا – ولا يزال - وحدة الأراضي السورية، والاستقرار الأمني، والعلاقات الاقتصادية والتجارية والاجتماعية.

وهذه هي الثوابت نفسها التي لا تزال في قائمة الأولويات التركية، والتي تزاد حاجتها لها في هذه الأيام الحرجة أكثر من أي مرحلة ماضية.

وهذا درس أيضًا لما ينتظر السوريين من بوابات أمنية لن يتسطيع أحد أن يشفع لهم في حال استعاد نظام الأسد قبضته من جديد... هذا أن بقيت مجرد بوابات أمنية مقبولة...

في بدايات ثورات الربيع العربي - الذي حُول لاحقًا الى شتاء - والخوف من النتائج التي تعيشها سورية اليوم، كانت القيادة التركية هي أول من حاول إقناع النظام الاستجابة لمطالب الشعب التي كانت بسيطة وخجولة، وتحذيره من الخطر القادم. والكل يذكر زيارة أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية يومئذ وعقده لقاء مكاشفة ومصارحة طال لأكثر من سبع ساعات مع رأس النظام لتحاشي التصادم وإراقة الدماء في سورية.

لكن النظام الذي كان عصيًا على أي إصلاح – وما يزال - لم يكن بوسعه أن يقوم باي خطوة إيجابية لمحاربة الفساد وإطلاق الحريات والاستجابة لمطالب الجماهير، رغم المظاهرات السلمية في كل المحافظات السورية...

بعد رد النظام دمويًا، وجر الثورة السورية إلى مواجهات عسكرية وسقوط الضحايا ونزيف الدماء لم يكن لتركيا سوى الوقوف مع هذا الشعب، علها تكون فرصة للخلاص من هذا النظام الذي لم تسلم من مؤامراته، ودعمه لحزب العمال الكردستاني منذ عشرات السنيين وسقوط عشرات الآلاف من المواطنيين الأتراك ضحايا بسبب هذا التنظيم الذي أقام النظام السوري له المعسكرات لتدريب مقاتلي الحزب وتقديم كل الدعم اللوجستي له. رغم كل هذا الملف المليء بالعداوة لتركيا، لم يمنع حكومة العدالة والتنمية يومها من إقامة علاقات مميزة مع نظام دمشق... فالهدف هو أكل العنب لا ضرب الناطور...

وهنا رد على الكتاب الأتراك الذين يلومون السياسة التركية لموقفها من الثورة السورية.

ودعوة أيضاً للسياسيين السوريين والمنتقدين العرب أن يتوقفوا جيدا عند تحليل هذه النقاط علها تساعدهم على فهم الحاضر والمستقبل...

لم يكن لتركيا أن تدير ظهرها لما يحدث بجارتها سوريا وأن تغمض عينها عن هذا الظلم والدماء والتهجير – كما يطالب الكتاب الأتراك - لأن هذا يتنافى مع امتدادها الجغرافي والتاريخي والديني والاجتماعي والإنساني، ولا حتى مع طموحات الدولة التركية الحديثة...

قدمت الدعم اللوجستي وفتحت الأبواب أمام اللاجئين - وهو موضوع خلاف ونقاش - وسهلت التواجد الفعلي للمعارضة السورية وأقامت لها المنصات لتمارس دورها ولقاءاتها بكل حرية وأمان.

دعمت المجلس الوطني والائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات – التي ارتأت مؤخرًا الابتعاد عن الجوار السوري...!! - ودعمت الجيش الحر والكتائب والجمعيات والمنظمات والحكومة السورية المؤقتة وكل مكونات الثورة والمعارضة السورية.

خلال هذه السنيين العجاف أثبتت المعارضات السورية والمنظمات والهيئات السورية والفصائل المسلحة والحكومة المؤقتة والجماعات الاسلامية والقومية، فشلًا ذريعًا على المستوى السياسي والإعلامي والعسكري والاجتماعي والمحلي. فشلًا ذريعًا في توحيد الكلمة والرؤية ووحدة المصلحة الوطنية وترتيب الأولويات. وفي عجزها عن تشكيل نموذج ناجح – ولو لمرة واحدة - على الأراضي السورية أو في دول الجوار لكي تعتمد عليه تركيا وتعتبره حجة لها في اللقاءات والمفاوضات الدولية.

وللإنصاف يجب أن نذكر هنا التحديات والعوائق والصعاب والعراقيل والتدخلات والاختراقات والمضايقات الدولية التي واجهها السوريون وحالت دون نجاحهم. لكن كل هذه العوائق يجب أن لا تكون شماعة يعلق عليها الفشل، فمن يقوم بثورة عليه أن يدرك هذه التحديات، ويجب أن يكون مستعدا للتضحيات والتحدي لتجاوزها... فرغم التضحيات الأسطورية والدماء الكثيرة التي قدمها الشعب السوري على مدى خمس سنيين، لكن من يمثله لم يستطع ترجمة هذه التضحيات لمكاسب وأوراق ضغط وقوة لصالح الثورة والشعب.

بعد هذه الاخفاقات كلها التي عايشتها تركيا يوميًا ومباشرة، جاء الانقلاب العسكري لكي يجعل الاتراك قيادة وشعبًا يعيدون كل الحسابات والتقيمات التي بدأت أصلًا مع وصول رئيس الوزراء بن علي يلدرم ومقولته المشهورة أننا سنزيد الاصدقاء ونقلل الأعداء...

علمية درع الفرات ودخول تركيا بهذا الشكل للداخل السوري، لم تكن لولا شعور تركيا بأن لهيب النار بدأت تحرق ثوبها من خلال اعتداءات تنظيم داعش على المدن الحدودية التركية، وأن ملامح الدولة الكردية في سوريا قد بدأت تطفو للسطح، وبدعم من الحليف الاستراتيجي.

التقارب التركي الروسي من أهم مقوماته هي نفسها الأولويات الهامة بالنسبة للطرف التركي، وهي التي ذكرناها في بداية المقال من وحدة الأراضي السورية، والاستقرار الأمني، ووأد حلم الدولة الكردية، وإعادة الأعمار وتحقيق النمو الاقتصادي والتجاري.

يظل الخلاف على من سيحكم سوريا هو المؤجل حاليًا، وقد يكون هناك نوع من التفاهم الضمني بهذا الأمر الذي لا أظنه مهمًا كثيرًا بالنسبة للطرفين في ظل وجود استعداد منهما للتنازلات والوصول لحل يحفظ ماء الوجه ويحقق الأمن والاستقرار.

ثمة نقطة هامة طغت على تصرفات كثير من السوريين - ربما نتيجة الشعور بالعجز أو الاحباط - وهي مطالبة الأتراك بالتدخل المباشر وفرض رؤية تركيا بالقوة وتوحيد عمل المعارضة وإجبارها على تنظيم صفوفها، شعورا منهم بأن السوريين لم ولن يستطيعوا عمل ذلك بأنفسهم.

هذه المنادات والمطالبات المتكررة ربما هي التي دفعت تركيا لنهج طريقة جديدة، ودفع الفصائل المسلحة بلقاء مع جهات عسكرية روسية بأنقرة، والذهاب لاجتماع الأستانة والتخلي عن أي مطالب جديدة وبدون أي شروط مسبقة.

تركيا التي استطاعت سابقًا التعايش وإقامة علاقات مميزة مع نظام دمشق الذي دعم عدوها الأول بكل قوة مما أودى بحياة عشرات الآلاف من أبنائها على مدى عشرات السنيين، القراءة التاريحية تقول أنه ليس من المستبعد منطقيا وسياسيًا أن تجد حلًا وصيغة جديدة لعلاقة مستقبلية مع أي نظام يحفظ بها أمنها القومي وأولوياتها الثابتة التي لم تغيرها.

الاحتلال الروسي لسوريا بهذه القوة التي فرضت سيطرتها على الجميع، الموقف الأمريكي المتواطئ منذ بداية الثورة السورية ودعمه لقوات البي ي دي المعادية لتركية، والانكفاء على ذاته في المرحلة الأخيرة، والسكوت العربي تجاه التدخل الروسي سابقا والايراني لاحقًا، جعل تركيا الدولة المتضررة أكثر من غيرها وشعورها بأنها بقيت وحيدة تجاه ما يحصل بسوريا من حرب وأزمة إنسانية.

نعم هناك تغير في ديناميكية وجرأة في المواقف التركية الاخيرة وخاصة عملية درع الفرات ،لكن في ضوء هذا السرد التاريخي والواقع الذي تعيشه تركيا اليوم من حصار اقتصادي وتفجيرات ارهابية وتهديدًا للأمن القومي، ووضوحًا للأولويات التركية الثابتة ،فإن المواقف الأخيرة لا يمكن اعتبارها استدارات بقدر ما يمكن أن نقول عن مدعيه أنه فهم غير شامل للتاريخ والواقع والسياسة وكونه تعويل زائد وأمنيات في غير محلها ووقتها.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس