د. علي حسين باكير - القبس الإلكتروني

شهدت تركيا الأحد أسخن انتخابات بلديّة على الإطلاق، وإن كان من الطبيعي أن تحظى هذه الانتخابات بأهمّية لدى الناخب التركي، لكونها ترتبط بالخدمات التي يتطلّع الى الحصول عليها محلّياً في الاحياء والقرى والمدن والمحافظات، إلاّ أنّها حظيت، كذلك، باهتمام بالغ من قبل المراقبين خارج تركيا لما تحمله من مؤشرات تتعلق بالمزاج العام للناخبين والانعكاسات التي تحملها النتائج على التوجّه المستقبلي للأحزاب ولمرشحي الرئاسة المحتملين بعد حوالي أربع سنوات من الآن.

ثلاث مفاجآت

يمكن القول إنّ نتائج الانتخابات حملت معها ثلاثة مظاهر لم تكن متوقّعة على الإطلاق؛ الأول، ويتمثل في فوز المرشّح عن الحزب الشيوعي التركي فاتح محمد ماتش أوغلو عن مدينة «طونجالي»، وهو أوّل فوز لشيوعي في هذا الموقع في تاريخ الانتخابات في تركيا. المرشّح الشيوعي تغلّب على منافسه من حزب الشعوب الديموقراطية الكردي، وهو ما صبّ في نهاية المطاف في مصلحة الحزب الحاكم الذي خاض معركة قويّة في شرق البلاد لزيادة نفوذه والحد من نفوذ الحزب الكردي.

والمفاجأة الثانية تتمثّل في فوز المعارضة برئاسة بلدية إسطنبول. وعلى الرغم من انّ النتيجة تخضع الآن لطعون، فإن بالمجمل، سواء ربحت المعارضة أو خسرت هناك، فان مرشّح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو قدّم اداءً قويّاً فاق كل التوقعات.

أمّا المفاجأة الثالثة فكانت فوز حزب العدالة والتنمية في منطقة «شيرناق» ــــ وهي معقل كردي ــــ بنسبة فاقت التصورات (٦١.٨%)، منتزعاً إيّاها من حضن حزب الشعوب الديموقراطية الكردي. هناك من يفسّر هذه النتيجة على أنّها انعكاس لحالة الخوف التي كان يفرضها التواجد المسلّح لعناصر حزب العمّال الكردستاني سابقاً، وأنّ نجاح الحكومة في الانتصار على حزب العمّال سمح للناس بأنّ تصوّت بإرادتها الحرّة.

قراءة متباينة للنتائج 

في القراءة الشمولية لنتائج الانتخابات البلدية، يعرض كل طرف من الأطراف لجمهوره النتيجة النهائية التي تمّت من زاويته الخاصة، اذ يركّز حزب العدالة والتنمية الحاكم على سبيل المثال، على أنّ «تحالف الشعب» الذي يضمّه الى جانب حزب الحركة القومية قد حصل على حوالي ٥١.٦% من الأصوات، ما مكّن التحالف من حصد أكبر عدد من البلديات بواقع حوالي (٥٠ من أصل ٨١) في عموم تركيا، ليؤكّد مجدداً أنّه لا يزال يتربّع على عرش العملية الانتخابية لكونه المنتصر الأكبر.

في المقابل، يركّز حزب الشعب الجمهوري على أنّ «تحالف الأمّة» المعارض الذي يضمّه الى جانب حزب «إيّي» القومي قد رفع من رصيد الأصوات التي حصل عليها بواقع حوالي ٨%، مقارنة بالانتخابات السابقة التي جرت في عام ٢٠١٤، ما مكّن حزب الشعب الجمهوري من زيادة حصّته بواقع ٨ بلديات جديدة، تخلّلها حصده للغالبية العظمى من المدن الكبرى ذات الاهمية والوزن، وفي مقدمتها إسطنبول والعاصمة أنقرة.

لكن في حقيقة الأمر، وبعيداً عمّا يريد كل طرف أن يركّز عليه، فان النتيجة تعكس مجموعة من الحقائق؛ أبرزها أنّه رغم الانتصار، فان نسبة الأصوات المخصصة لحزب العدالة والتنمية تراجعت مقارنة بانتخابات عام ٢٠١٤، كما انّ الحزب خسر حوالي ١١ بلدية مقارنة بالانتخابات نفسها. الأهم من ذلك أنّ الحزب الحاكم فقد السيطرة على أكبر المدن التركية، بعد انّ ظلّت أنقرة وإسطنبول خارج حضن المعارضة لأكثر من ٢٥ عاماً، وهذا مؤشّر لا يمكن الاستهانة به او التخفيف من وطأته بحجّة انّها انتخابات بلدية فقط.

الانعكاسات السياسية

إذ على الرغم من انّها انتخابات بلدية، فإنّ التعبئة التي جرت لحث الناخبين على الذهاب الى صناديق الاقتراع شملت كذلك رسائل سياسية واضحة. صحيح انّ حزب العدالة والتنمية حصد غالبية البلديات، وهو مؤشر على ثقة الناخب على قدرة الحزب على تقديم المزيد من الخدمات، فإنّ فقدانه المدن الكبرى (البلديات الكبرى) لا يمكن فهمه الا على انّه يحمل رسائل سياسية سلبية من الناخب الى الحزب.

هذه الرسالة تأتي في سياق المسار المتراجع لحزب العدالة والتنمية منذ بضع سنوات، وهو أمر تعرفه قيادة الحزب جيداً؛ بدليل أنّها قامت بتقديم موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كانت من المزمع إقامتها نهاية عام ٢٠١٩ الى يونيو من العام الماضي، وذلك لتلافي الانعكاسات السلبية التي كان من الممكن أن تحصل بعد هذا التراجع في الانتخابات البلدية. معظم المدن الكبرى التي سيطرت عليها المعارضة كانت قد صوّتت بـ «لا» للاستفتاء الذي جرى سابقا على النظام الرئاسي، وهو مؤشّر آخر على المزاج العام السائد في هذه المدن.

نتيجة هذه الانتخابات تؤكد جملة حقائق قد نعتاد عليها من الآن وصاعداً، وهي انّ حزب العدالة والتنمية سيكون بحاجة الى حليف ليحصد أغلبية الأصوات، وليس كما كان عليه الامر في بدايات الحزب عندما كان يستطيع ان يفعل ذلك منفرداً. لكن لهذا التحالف انعكاسات على توجهات الرأي العام؛ اذ إنّه يقوي من خطاب اليمين وكذلك من وزنه الانتخابي. في المقابل، فإنّ المعارضة أدركت عملياً أنّ تنسيق التحالفات في الانتخابات يحقق نتائج مذهلة، الأمر الذي قد يشجّعها لاحقاً على تبنّي نفس الأسلوب في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة.

إذا ما تأكّد رسمياً فوز أكرم إمام اوغلو برئاسة إسطنبول، فانّ من شأن ذلك ان يتيح فرصة كبيرة لأحزاب المعارضة في الانتخابات الرئاسية المقبلة لتقديمه كمرشّح رئاسي، بشرط أن تكون أحزاب المعارضة قد تعلّمت الدروس الماضية. ففوز حزب الشعب الجمهوري برئاسة بلدية كبرى المدن لا ينفي عنه صفة الترهّل والانغلاق، وفي الغالب فإنّ أصوات حلفائه بالإضافة الى أصوات الناقمين على حزب العدالة هي التي ساعدته، ومن دون الانتقال من هذه الحالة الى حالة المبادرة سيكون من الصعب جدّاً تحقيق انتصارات في انتخابات لاحقة.

أخيراً، إذا ما كانت هناك نيّة فعلاً لانشاء حزب يمين وسط، أو محافظ وسط من رحم حزب العدالة والتنمية، فإنّ نتائج الانتخابات البلدية هذه ــــ لجهة خسارة رئاسة البلديات الكبرى ــــ من الممكن لها ان تعطيه الذريعة اللازمة لذلك، كما أنّ عامل الوقت المتاح حتى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة ــــ حوالي أربع سنوات ــــ يجعل من هذه الفكرة ممكنة، لكن اذا لم يتم اتخاذ هذه الخطوة الآن يجب على الجميع ان ينسى هذا الاحتمال تماماً.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس