فراس السقال - خاص ترك برس

أذكر عندما كُنّا صِغاراً في المرحلة الابتدائيّة كانتْ مَدارسنا البعْثيّة عندما تشعر بعجز في مِيزانيتها وشحٍّ في صندوق إدارتها تُعلن عن إقامة رحلة تُجريها أيّام العُطل، ولم تكن تواجه أيّ متاعب أو حيرة في اختيار مكان الرحلة، فالأماكن جاهزة ومُحددة مسبقاً، فوجهتنا إلى معمل أقلام الرصاص في الغوطة، أو معمل البسكويت المدور، ومعمل الكونسروة، أو معمل الشرق للألبسة القطنيّة الداخليّة، أو إلى شلّالات تلّ شهاب وزيزون، وبُحيرة مزيريب ومُدرّج بُصرى في درعا، وأحياناً إلى مكانين أو ثلاث دمّرها الاحتلال الصهيوني في القنيطرة كذبوا علينا بأنّها حُررتْ على يد بائع الجولان حافظ الوحش (الأسد). هذه كلّ الأماكن المتاحة في رحلاتنا لدى مدارس البعث في الثمانينيات.

والنسبة إلى الهدايا التي كُنّا نظفر بها خلال رحلتنا فهي قلم رصاص قلبه مكسور من معمل الأقلام، وقطع من البسكويت الذي أصابته الرطوبة، وحبّة حلوى من راحة درعا المشهورة، هذا أقْصى شيء كنّا نحظى به.

وفي هذا العام 2019 لم تتغير سياسة نظام البعث، بل زادتْ دناءة وخِسّة وخيانة، ففي هذا الأسبوع قامتْ مدرسة ابتدائيّة في مدينة دمشق المحتلة بإقامة رِحلة ترفيهيّة فريدة، فقد أمر مُديرُ المدرسةِ المدرِسينَ والموجهينَ باختيار 30 طفلاً، على أن يكونوا من الطلّاب النُجباء والأذكياء والمتفوقين، وممن نالتْ وجوههم مَسحة يُوسفيّة حسنة، بينما بقي مكان الرحلة مَجهولاً لدى الطلّاب والأهالي حتى ساعة المغادرة، إمّا لإجراءات أمنيّة، أو حتى لا يعترض الأهالي على تلك الرحلة، أو لمفاجأة الطلبة بها. أمّا مكان الرحلة فسأتركه لتخميناتكم في مكان يذهب إليه طلاب الصف الابتدائي عادة للترويح عن أنفسهم!! وغالب ظنّي أنّه لن يخطر على بال أحدكم مكان تلك النزهة الترفيهيّة التربويّة!

لقد كانت رحِلتهم الاستجماميّة في جنبات ثكنة عسكريّة للاحتلال الروسي في مدينة دمشق أو في أطرافها، ذاك الاحتلال البغيض الذي يقصف أهلنا ليل نهار، والذي دمّر البلاد وهجّر العباد...

وعند وصول الطلّاب إلى المعسّكر كان في استقبالهم بعض الضبّاط والجنود وعناصر من الشرطة العسكريّة الروسيّة، الظاهر أنّهم من المسؤولين عن تلك الثكنة، وكان جميع الجنود الروس يتكلمون اللغة العربية بطريقة بدائيّة ومُضحكة، حتى أنّ الطلّاب لم يفهموا على الجنود كثيراً من الكلمات، وكان معهم في الثكنة (ومع الأسف) بعض المجندين السوريين، المكلّفين بخدمة الجنود الروس، ويساعدونهم في التمكّن من اللغة العربية.

وخلال برنامج الرحلة قام المضيف الروسي بتقديم الأطعمة والمرطبات والحلوى للطلّاب، ثمّ رافقوهم بجولة كاملة في الثكنة، استعرضوا فيها جميع ما في المعسكر من خدمات وأليّات ومُعدّات وساحات للتدريب وأسلحة، بل وأكثر من ذلك أنّهم أتاحوا الفرصة للطلّاب الصغار بركوب السيارات العسكريّة المصفّحة وكذلك الدبابات المدمِّرة، وداروا بهم حول المعسكر.

وأخذ الجنود الروس يتوددون إلى الأطفال بالعبارات اللطيفة المصطنعة الكاذبة، فكانوا يقولون لهم: أنتم لستم من السوريين فجمالكم ليس عربي، من المؤكّد أنّكم من أصول روسيّة، فشوشوا عقولَ الطلّاب بهذه الدسائس الخطيرة، وفي نهاية الرحلة قدّموا الهدايا للأطفال عبارة عن بدْلات رياضيّة جميلة وغالية وكنزات فاخرة.

ثمّ ودّع عناصر جيش الاحتلال الروسي الطلّاب بأجمل العبارات وألينها، ووعدوهم باستضافتهم مَرات أخرى بزيارات دوريّة، وأغروهم بالمزيد من الهدايا والمفاجآت المختلفة التي تنتظرهم.    

وعاد الطلّاب إلى أهليهم بعد خمس ساعات أو أكثر، مُحمَّلين بأفكار عديدة وأحلام وهميّة رسمتها لهم مخططات ذلك المحتل، التي تريد الهيمنة على عقول أبنائنا وخيالهم وأحلامهم الورديّة، بل وعلى آفاقهم المستقبليّة، كما سيطرت على وطننا بشكل كامل.

لقد نقل الطلّاب إلى أهليهم فرحتهم العظيمة بتلك الزيارة الفريدة، وأبدوا سعادتهم المخدوعة لما لاقوه من الحفاوة والتكريم والإغراء المسموم، لم يحلموا بها في بيوت أهليهم وفي ظل بيئتهم المعدومة، فما هو الهدف من وراء تلك الرحلة، ومن يقف وراء هذه الجريمة البشعة؟!

عندما كنت أصطحب طُلّابي في رحلة إلى مكان ما في الماضي، كنت أطرح عليهم بعض المعلومات والأسئلة عن ذلك المكان، وأطلب منهم الأجوبة لما لاحظوه خلال جولتهم، أهدف من خلال ذلك الخروج بفائدة عمليّة تزيد من مخزونهم الثقافي والعلمي، والآن أتقدّم بسؤال بخصوص تلك الرحلة إلى مدير تلك المدرسة: ما هو الهدف من القيام بزجّ أطفال صغار في مكان إجراميّ يساهم في القتل والتدمير والترهيب والاحتلال وتحت مسمى رحلة ترفيهية؟!

واستنتاجي لما سيدلونه من الإجابات (إن صدقوا في أجوبتهم): أن تلك الرحلة آتت أُكلها، وحقّقتْ أهدافها في غسل أدمغة أطفالنا، واستدراجهم إلى محبة ذلك الجيش المجرم المحتل، وترقيق قلوبهم بأنّ جيش روسيا هو جيش رحيم مُسالم وصديق مخلص، وأنّ ما يسمعه الطلّاب من خلال أحاديث عوائلهم فيما بينهم، وأجهزة التلفزة في بيوتهم ليس إلا محض افتراء، حيث إنّ 99% من أهل الشام لا يُشاهدون أخبار النظام السوري وحلفائه البتّة، ليقينهم أنّها قنوات خبث وكذب ونفاق، فالجميع يتابع أخبار القنوات المعارضة لنظام بشار المجرم.

وهناك أهداف تمهيديّة خفيّة لهذه الرحلة لعلها غابتْ عن كثير من شرفاء بلادنا الغافلين، وهي تسميم فكر الطلّاب في تشويقهم ليكونوا جنود المستقبل القريب، لا في ميليشيات بشار، بل جنوداً في الجيش الشيوعي الروسي، وإغرائهم بطريقة تجعلهم يحتقرون معاشهم وحياتهم وثقافتهم، فينفرون من مجتمعهم المسلم العربي إلى مجتمع آخر، وقد رأينا العديد من الفيديوهات لأطفال سوريين يتامى، اختطفتهم أجهزة الأمن الروسيّة من وطننا، وأرسلتهم إلى روسيا وهم دون سِنّ البلوغ، لأدلجتهم وتربيتهم التربية العسكرية الاستخباراتية الشيوعية المركّزة، المعادية للإسلام والعرب والحاقدة عليهما، ولإنتاجهم في المستقبل فيكونوا قنابل موقوتة تُدمّر بلاد العرب والمسلمين.

وهكذا مَضتْ الرحلة الأولى التي تُمثّل اللّبِنة الأولى في طريق الإيقاع بأبناء سورية، وإرسالهم قَرابينَ إلى جيش بوتين، وتهيئتهم ليكونوا ساسة المستقبل في موسكو، المدرَّبين على كراهيّة العرب والمسلمين، والمنصاعين لمن غسل أدمغتهم ولمن زرع فيهم الحقد والضغينة على أصولهم. فانتظروا يا أبناء سورية خاصّة، والعرب والمسلمين عامّة جيشاً يَبطش بكم وببلدانكم وبأفكاركم وبمبادئكم دمه عربي مُسلم، قد أصابه سُمّ زعاف فغدا قطراناً يفتك بأهله وإخوانه ووطنه.

وأقول إلى جميع أهلنا في شامنا الحبيب: تنبّهوا واستفيقوا لما يكيده الأعداء بكم، وافطنوا لما يُحاك لبلادكم ودينكم ومستقبلكم، فلا تكونوا سبباً في دمار البلاد وفسادها عبر أولادكم، ففي كل يوم يبتكر أعداؤنا سلاحاً جديداً أكثر فاعليّة وأشدّ تأثيراً، حتى تسلّحوا بأبنائنا ويُمهدون لسلبهم من أصولهم وتحريف أنسابهم، ليكونوا عصيّاً بأيديهم، فلا تسمحوا لهم بتمرير مشاريعهم الخبيثة، ولا تأمنوا لنظام الأسد المستعد لتسليم أيّ شيء لأعداء البلاد، ليبقى لصيق كرسيّه وإجرامه وخيانته، ففطانتكم وحرصكم سلاح فعال، فأهلّ الشام قد عُصموا من الحماقة والخيانة والبلادة.

عن الكاتب

فراس السقال

باحث في العلوم العربية والإسلامية واستاذ جامعي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس