د. علي حسين باكير - TRT عربي

تعود جذور هذه الأزمة إلى ما قبل التدخل التركي العسكري في الجزيرة عام 1974 الذي هدف إلى وقف المذابح التي شنّها القبارصة الروم ضد القبارصة الأتراك آنذاك في أثناء سعيهم لضمّ الجزيرة إلى اليونان.

في الخمسينيات كانت قبرص لا تزال تحت الوصاية البريطانية شأنها شأن كثير من دول المنطقة، وفي نهاية ذلك العقد من القرن الماضي تمّ التوصل إلى اتفاقيتي زيورخ ولندن، وجرى بموجبهما اختيار تركيا وبريطانيا واليونان بصفتها دولاً ضامنة للترتيبات المتعلقة بالجزيرة وإدارة السلطة والشراكة بين المكوّنات التركية واليونانية فيها.

وبناءً عليه تمّ تأسيس جمهورية قبرص عام 1960 على أساس الاعتراف المتساوي في الحقوق السياسية للمكونات القبرصية. لكن سرعان ما بدأ القبارصة الروم ممارسة سياسة تمييز ضدّ نظرائهم الأتراك، تبعها انقلاب على الشراكة السياسية في إدارة البلاد بتحريض ومشاركة يونانية.

تَمكَّن الانقلابيون من القبارصة الروم من السيطرة على الوضع برئاسة اليميني المتطرّف نيكوس سامبسون، وقد كان من المعروف عنه عنصريّته القومية وحقده على الأتراك وتفانيه لضمّ الجزيرة إلى اليونان.

سرعان ما تمّ ارتكاب المذابح ضدّ القبارصة الأتراك مما دفع تركيا إلى التدخّل عسكرياً بعد امتناع بريطانيا واليونان عن اتخاذ التدابير اللازمة لوقف ما يجري بصفتهما دولاً ضامنة للوضع في قبرص.

انتهى الأمر إلى تقسيم الجزيرة إلى شطرين، أحدهما تركي والآخر رومي. لكن على خلاف القسم التركي، حظي القسم الرومي برعاية ودعم الغرب، كما تمّ الاعتراف به كممثل شرعي لقبرص، فيما لم يعترف بالشطر الثاني سوى الأتراك، وعانى القبارصة الأتراك من حصار دولي لا يزال قائماً حتى اليوم. بُذل الكثير من الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى حلول خلال ما يزيد عن 50 عاماً، لكن سرعان ما كان يتم تقويضها من الطرف القبرصي الرومي بالإضافة إلى اليونان.

أبرز هذه الجهود وأحدثها كان ما يُعرف باسم خطّة أنان الأمميّة. هدفت هذه الخطة إلى أخذ مطالب الطرفين القبرصيين الرومي والتركي بعين الاعتبار والعمل على توحيد شطرَي الجزيرة واعتماد نظام فيدرالي لإدارة البلاد.

تمّ طرح الخطّة على الاستفتاء، فوافق القبارصة الأتراك، لكن القبارصة الروم رفضوا. لم يكن هناك دافع لدى الشطر الرومي ليوافق، بل على العكس، قام الاتحاد الأوروبي بمكافأته بضمان مكان له في عضوية الاتحاد الأوروبي، وبذلك عزّز الاتحاد حالة عدم التكافؤ بين الطرفين، وشجّع الشطر الرومي دوماً على رفض أي تسوية من خلال الدعم اللا محدود الذي يتم تقديمه له بدلاً من ممارسة الضغوط عليه.

الشطر الآخر من المأساة يتعلّق بموقف الدول العربية والإسلامية من القضية القبرصية، إذ على الرغم من أنّ اجتماع منظَّمة المؤتمر الإسلامي (منظمة التعاون الإسلامي حالياً) في العام 1975 كان قد أبدى تعاطفاً مع المجتمع القبرصي التركي للدفاع عن حقوقه المشروعة والهوية الإسلامية ضمن قبرص مستقلة حيادية فيدرالية وخالية من أي قواعد أجنبية، فإنّ شيئاً عملياً لم يتم اتخاذه لدعم القبارصة الأتراك/المسلمين بخلاف الدعم المطلق الذي تلقّاه القبارصة الروم من رعاتهم الغربيين. الكثير من العوامل يمكن أن يفسّر الموقف العربي سابقاً.

فعلى سبيل المثال، الدول العربية كانت تنظر بعين الريبة إلى تركيا ودورها الإقليمي وعلاقتها مع إسرائيل، علاوة على ذلك فانّ الموقف اليوناني الذي يميل إلى اليسار آنذاك كان داعماً للقضية الفلسطينية، ولذلك فضّل الكثير من الأنظمة العربية دعم اليونان، وجاء ذلك على حساب القبارصة الأتراك.

المفارقة أنّه على الرغم من انقلاب الآية خلال العقدين الماضيين فإنّ موقف الأنظمة العربية لم يتغيّر كثيراً لكنّه أصبح يعبّر هذه المرّة عن حجم التبعيّة للغرب. فنقص أو انعدام الشرعيّة السياسية التي من المفترض أن يُستمدّ من الشعب لدى غالبية الأنظمة العربية يدفعها للخضوع لرغبات و/أو إملاءات الأنظمة الغربية كتعويض عن الشرعية الغائبة وتأمين الحماية الخارجية للنُّظُم السياسية.

تحاول تركيا اليوم كسر المعادلة التي أرساها الغرب في قبرص خلال ما يزيد على 50 عاماً، وذلك من خلال الترويج لخيار حلّ الدولتين المتساويتين.

قُبيل زيارته لقبرص للمشاركة في احتفالات الذكرى 47 لـ"عملية السلام" التي أطلقتها تركيا في الجزيرة، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إن مقترح جمهورية شمال قبرص التركية لحل الدولتين "فرصة تاريخية لجميع الأطراف".

وجدد الرئيس أردوغان دعوته الجهات الراغبة في مستقبل عادل ودائم ومستدام في الجزيرة لاغتنام الفرصة التاريخية.

يرفض الأوروبيون والأمريكيون هذا المقترح، لكنّهم غير مستعدين في المقابل للضغط على القبارصة الروم واليونان لقبول الحلّ الفيدرالي وإعطاء القبارصة الأتراك حقوقهم والتوقّف عن نهب ثرواتهم، وآخرها النفط والغاز الذي تستثمره قبرص الرومية بشكل أحادي ودعم غربي بزعم تمثيلها لكامل الجزيرة.

إن التحرّك التركي في هذا المضمار هدف إلى تحريك المياه الراكدة والضغط على الطرف الآخر، لتخليص القبارصة الأتراك من عزلتهم ومحنتهم، كما أنّ تواصل تركيا مع الدول الحليفة والصديقة في هذا الصدد سيكون بمثابة مؤشر على بدء التحرّك في هذا الخيار.

هناك من يرى أنّ دولاً مثل أذربيجان وباكستان ودول المجلس التركي وأوكرانيا قد تصبح مستعدة في مرحلة ما للاعتراف بالشطر الشمالي كدولة مستقلة (قبرص التركية)، لكن ماذا عن العرب؟

حتى الآن لا يوجد مؤشرات على دعم مثل هذا التوجه. العداء لتركيا لدى بعض الانظمة العربية علاوةً على التبعية للغرب قد تُصبح عائقاً أمام مثل هذه الخطوة، لكنّ ذلك لا يجب أن يمنع الشعوب من أن تصبح واعية إزاء ما تمثّله وتعنيه القضية القبرصيّة.

علاوةً على ذلك، فانّ مبدأ التضامن يفترض كذلك أن تشعر الشعوب العربية بقضايا الآخرين المهمّة إذا ما كانت تريد منهم أيضاً أن يدعموا قضاياها العادلة والمحقّة وأن يبدوا تأييدهم وتضامنهم معها.

من المؤسف أنّ لا يُتاح للشعوب العربية اليوم أنّ تعبِّر عن نفسها وتحوِّل إرادتها إلى إرادة سياسية مع انتشار الظلم والطغيان والديكتاتورية والانقلابات، لكن دوام الحال من المحال، كما أنّ دعم الشطر الشمالي من الجزيرة ودعم القبارصة الأتراك لا يتوقف عند حدود القرار السياسي لهذا النظام أو ذاك.

فعلى الرغم من أنّ الاعتراف السياسي هو مولّد أساسي للشرعيّة الخارجية، فإنّ هناك دوماً خيارات أخرى ما دون سياسية من شأنها دعم القضية القبرصية اقتصادياً، وثقافياً، وإعلامياً، بخاصّة أن حيّز الشعوب في لعب مثل هذه الأدوار سبّاق وأكثر مبادرة من دور الأنظمة، وهذا ما يتعيّن تفعيله عربياً قُبيل الانتقال إلى المرحلة السياسية مستقبلاً.

 

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس