ترك برس
مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا والتي توصف بـ "التاريخية والمثيرة للجدل"، يكتسب الجدل حول تحالف الأحزاب، زخماً، لا سيما وأن ما يميّز السباق الانتخابي المقبل، هو دخول أحزاب جديدة تضم في صفوفها شخصيات لها ثقل في المجتمع التركي، مثل أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان، رفاق درب الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان.
وأدى مشاركة داوود أوغلو وباباجان في اجتماع الأحزاب الـ 6 المعارضة، وإصدارهم بياناً مشتركاً يجمع على العودة للنظام البرلماني في حال فوزها بالانتخابات، إلى إثارة التكهنات حول احتمالية تحالف هاتين الشخصيتين مع كمال كليجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، والذي كان طيلة سنين، الخصم الأبرز والتاريخي لحزب العدالة والتنمية الذي كان يضم في صفوفه ذات يوم داوود أوغلو وباباجان أيضاً.
وفي مقال له على "الجزيرة نت"، قال الباحث في الشأن التركي، سعيد الحاج، إنه ومع الإشارات المتواترة التي صدرت عن زعيم المعارضة كليجدار أوغلو حول رغبته في ترشيح نفسه، تتحول الأنظار إلى الحزبَيْن الجديدَيْن اللذين أسسهما أحمد داود أوغلو وعلي باباجان -القياديان السابقان في العدالة والتنمية- وموقفهما من ترشيح "عدو الأمس صديق اليوم".
الانشقاق
لسنوات طويلة جدا، شغل كل من داود أوغلو وعلي باباجان مناصب رفيعة جدا في الحزب الحاكم والحكومة وكانا من "رفاق درب" أردوغان اللصيقين والموثوقين. فالثاني أمسك بدفة الاقتصاد التركي حتى عام 2015 تقريبا، وكان يلقب بصانع النهضة الاقتصادية التركية مع العدالة والتنمية، فضلاً عن شغله مناصب وزير الخارجية فترة قصيرة في البدايات ونائب رئيس الوزراء في حكومتين ونائب بالبرلمان في 4 فترات تشريعية.
والأول تدرج في المناصب من مستشار لرئيس الوزراء إلى وزير للخارجية إلى رئيس للوزراء وحزب العدالة والتنمية خلفا لأردوغان الذي انتخب رئيسا في 2014، حيث ترأس 3 حكومات متتالية، فضلاً عن عضوية البرلمان في 3 فترات تشريعية.
استقال داود أوغلو من رئاسة العدالة والتنمية والحكومة في مايو/أيار 2016 إثر خلافات مع الرئيس أردوغان وبقي نائبا في البرلمان حتى 2018 دون نشاط بارز، وغاب أو غُيّب عن الحياة العامة والإعلام باستثناء ليلة الانقلاب الفاشل في 2016، وكان واضحا عدم تأييده للتعديل الدستوري الذي أقر الانتقال للنظام الرئاسي في 2017.
بعد الانتخابات البلدية التي خسر فيها حزبه بلديتي إسطنبول وأنقرة أصدر داود أوغلو "المانيفستو" الشهير الذي سرد فيه انتقاداته للعدالة والتنمية وأردوغان، ثم استقال من الحزب عام 2019 (استباقا لطرده منه) ليؤسس حزب المستقبل في ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه.
أما علي باباجان فكان قد استقال من الحزب في 2019، قبل أن يخوض نقاشات مطولة مع عدد من السياسيين وقيادات سابقة في العدالة والتنمية، ليعلن عن تأسيس حزب التقدم والديمقراطية في مارس/آذار 2020.
حسابات معقدة
تبدو حسابات الحزبين أكثر تعقيدا من الأحزاب الأخرى بسبب تمايز موقفهما بشكل واضح، فهما معارضان لأردوغان وخرجا من عباءة العدالة والتنمية، لكنهما أيضا من نفس الخلفية الفكرية والسياسية، وهما كذلك قياديان بارزان سابقان في الحزب والحكومة. ما يعني أن لهما بصمات في إنجازات العدالة والتنمية ومسيرته من جهة، وخصومة مع المعارضة وخصوصا الشعب الجمهوري من جهة ثانية.
ولذلك فخياراتهما محدودة ودقيقة وصعبة منذ اللحظة الأولى، إذ -نظريا- لا يستطيعان التحالف مع العدالة والتنمية الذي انشقا عنه، ولا مع المعارضة وخصوصا الشعب الجمهوري الذي يختلف معهما ويختلفان معه جذريا، تاريخيا وفكريا وسياسيا.
تخطى الحزبان هذه المعضلة جزئيا بمشاركتهما في اجتماعات مناقشة العودة للنظام البرلماني التي خاضتها الأحزاب الأربعة التي كانت انضوت تحت تحالف المعارضة في انتخابات 2019 البلدية إضافة لهما. وقد حضر داود أوغلو وباباجان لقاء رؤساء الأحزاب الستة قبل أيام دون الإعلان عن انضمامهما للتحالف المعارض.
وفي ظل الإشارات العديدة التي صدرت عن زعيم المعارضة كليجدار أوغلو والتي تفيد برغبته الترشح لانتخابات الرئاسة، يبرز سؤال وجيه عن موقف الرجلين من هذا الترشح، ولا سيما أن الرجل وحزبه يُعدّان خصما تاريخيا وتقليديا لهما، قبل أن يجمعهم رفض النظام الرئاسي ومعارضة أردوغان مؤخرا.
خيارات عدة
ليس من المقطوع به أن يكون كليجدار أوغلو مرشح التحالف المعارض للانتخابات الرئاسية المقبلة، لكنه سيكون -في ظل رغبته- صاحب الحظ الأوفر لذلك، من باب أنه يرأس الحزب الأكبر شعبية وخزانا انتخابيا بين أحزاب المعارضة وكذلك امتلاكه قرار حزبه بفضل الصلاحيات التي يمنحها له قانون الأحزاب.
وبالتالي، ما زال اختيارُ مرشحٍ توافقي للمعارضة أمرا محتملا لا حتميا، فضلا عن أن يكون ذلك المرشح هو كليجدار أوغلو نفسه. بل يمكننا القول إن توافق المعارضة على مرشح واحد يبدو اليوم أصعب من انتخابات 2018، حين فشلت المعارضة في تقديم مرشح توافقي وتشظت أصواتها بين عدة مرشحين.
إضافة لذلك، فالانتخابات المقبلة هي الأولى التي سيخوضها الحزبان الجديدان، "المستقبل" و"الديمقراطية والتقدم"، وبالتالي فهما أمام خيارين لا ثالث لهما، إما دخول البرلمان وتأكيد الحضور على الساحة السياسية أو البقاء على هامش المشهد وربما الاضمحلال والفشل ككثير من التجارب السابقة لانشقاق قياديين من أحزاب كبرى وقوية.
هذا المعنى، الرغبة الجامحة في النجاح، قد يفرض على الحزبَيْن خيارات صعبة ومعقدة، لكن قرارهما النهائي سيتأخر غالبا لحين تبلور مشهد الانتخابات من حيث الموعد والفرص ونتائج استطلاعات الرأي وأسماء المرشحين والتحالفات القائمة والمحتملة.
ترشيح الحزبين لشخصية مثل كليجدار أوغلو، إن حصل، سيضعف موقفها في أوساط المحافظين، الشريحة التي يخاطبونها بشكل أساسي، وسيعرضهما لانتقادات واسعة من أردوغان والعدالة والتنمية. لكنه قد يكون خيارهما في حال لم يجدا طريقا آخر لدخول البرلمان، إذ يملك حزب الشعب الجمهوري إمكانية تقديم بعض مرشحيهم على قائمته أو التحالف معهم بشكل منفرد إن لم يكونوا أعضاء أصلاء في التحالف المعارض.
ما يمكن أن يحول دون ذلك عدة أمور، في مقدمتها احتمالية تعديل قانون الانتخاب وخفض العتبة الانتخابية من 10% إلى 5% أو 7% مثلاً -وهو أمر مطروح ومحتمل- بحيث يمكن أن يراهنا على دخول الانتخابات بمفردهما أو بتحالف ثالث بعيدا عن التحالفين القائمين حاليا. كما أنه عادةً من الأفضل للأحزاب المؤسَّسة حديثا أن تخوض الانتخابات الرئاسية بمرشحها الخاص، إذ من شأن ذلك -بغض النظر عن فرصه في الفوز- أن يزيد من زخم حملتها الانتخابية وبالتالي يرفع من حظوظها في الانتخابات البرلمانية.
أخيرا، من المهم التنبه إلى أن الحزبين المذكورين لم يحسما أمرهما بعد بخصوص الانضمام لتحالف المعارضة، بل إن حزب السعادة نفسه الذي خاض الانتخابات السابقة كجزء منه لم يحسم أمره بعد وما زال بانتظار جلاء مشهد ما قبل الانتخابات.
وحرصا منهما على ذلك، فقد أكد الحزبان ووافَقَتهما على ذلك بقيةُ الأحزاب أن موضوع الانضمام للتحالف فضلاً عن موضوع مرشح الانتخابات الرئاسية لم يطرحا أبدا في لقاء رؤساء الأحزاب المذكور، لدرجة أن حزب المستقبل بقيادة داود أوغلو أجَّل توقيعه على النص المتفق عليه بين هذه الأحزاب أكثر من مرة حرصا على عدم إعطاء انطباع بأنه بات ضمن تحالف المعارضة.
وبهذا المنطق، ليس من الصعب توقع سعي هذين الحزبين لدخول الانتخابات منفردين إن استطاعا ذلك، بتعديل قانون الأحزاب كما سلف أو ارتفاع حظوظهما في استطلاعات الرأي حتى موعد الانتخابات.
وهذا سيناريو وارد، بتشكيل تحالف ثالث يضم إلى جانبهما بعض الأحزاب اليمينية مثل السعادة المحافظ والجيد القومي وربما غيرهما. ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن تحالف الحزبين مع العدالة والتنمية نفسه، رغم كل ما حصل، يبقى كذلك احتمالا واردا (وإن ضعيفا) في حال تغير المشهد السياسي أو استطلاعات الرأي، حيث إن همَّ الأحزاب جميعا هو الفوز في الانتخابات المقبلة بما يمكن أن يجمع الغرماء إلى جانب بعضهم بعضا، ولذلك أمثلة كثيرة في تاريخ تركيا الحديث.
وفي المحصلة، ما زال من المبكر جدا الحديث عن مرشح توافقي للمعارضة مقابل أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فضلاً عن دعم حزبَي "المستقبل" و"الديمقراطية والتقدم" له، ولا سيما إن كان هذا المرشح هو كليجدار أوغلو.
ومن البديهي أن مجرد ترشيحهما أو دعمهما له لا يعني بالضرورة رفع أسهمه بالفوز في الانتخابات فضلاً عن ضمانه الفوز، ذلك أن آراء الناخبين وأصواتهم لا تتبع بشكل آلي ومباشر تعليمات رؤساء الأحزاب التي يدعمونها. فالناخب التركي يمكن أن يمايز بين من يختارهم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية وفقاً لعدة معايير، ومن الصعب تصور انتخاب الشريحة المحافظة أو الإسلامية لشخص مثل كليجدار أوغلو حتى لو اتجهت الأحزاب المذكورة لدعمه مرشحا توافقيا للمعارضة.
الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في تركيا أبعد ما تكون عن الحسابات الرياضية البسيطة المباشرة وأقرب ما تكون للعبة شطرنج معقّدة يمكن لأي خطوة فيها أن تحول مسار اللعبة فضلاً عن نتيجة المباراة.
يُذكر أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، كان قد وصف في تصريحات قبل أيام، الانتخابات الرئاسية المقررة في يونيو/ حزيران 2023، بأنها "ستكون نقطة تحول في تاريخ البلاد والشعب."
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!