علي الصاوي - خاص ترك برس

يقول الزعيم الراحل "إبراهام لنكولن"حين كان رئيسا للولايات المتحدة: " كانت المعارضة من خلفي سياطا تلهبني، ومن أمامي منارة تُنير لي الطريق" عبارة قليلة المبنى لكنها واضحة القصد عميقة المعني، وتختصر الطريق على كل مُتحيّر في فهم دور المعارضة الحقيقي، كما أن كلام لينكولن يُحدد شكل العلاقة السياسية التي من المفترض أن تكون بين السلطة والمعارضة، مبينا دورها الأخلاقي قبل السياسي في مساندة السلطة لكشف أوجه القصور والإشارة إلى موضع الجُرح، ففي السياسة الثبات على الرأى فضيلة، لكنه فضيلة العقول الصغيرة، ومهما اختلفت الرؤى والأفكار يظل هناك هدف واحد لأى معارضة سياسية، وهو تقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والحزبيّة أو مصلحة قوى خارجية. 

قد يقول قائل وهم كُثر: إن السلطة في الغالب لا تعبأ بنصائح المعارضة، بل لا تريد الحوار معها من الأساس، ولا تفهم سوى لغة القمع والتعسف للقضاء عليها أو إقصاءها لتظهر في مظهر ضعيف بلا وزن أو تأثير ومن ثم إخراجها من المشهد، وقد يكون مُحقّا جزئيا فبعض الأنظمة السياسية تتسم بالقمع وتكميم أفواه المخالفين لها بتطرف غير مقبول، لكن دعك من السلبي والقليل فلا يُقاس عليهما، إنما يقاس على الإيجابي والأعم الأغلب، الذي يُشكّل معيار الحالة السوية ويضعها ضمن تقييم أدائي صحيح بعيدا عن المصالح الخاصة والعاطفة الوطنية. 

يُخطئ رجل السياسية حين يُسئ تقدير فهم الصراع السياسي عبر رؤاه الضيقة، ما يدفعه إلى سلك مسار سياسي خاطئ، وامتلاك معطيات غير متكافئة في التعامل مع المشهد، فيظن أن صراعه مع السلطة تنافسي أو تساومي في حين أنه صراع صفري عدمي خلقه هو بضعفه الاستراتيجي ودعاياه السلبية، وعدم انطلاقه سياسيا من الواقع الذي يعيشه، لكن سرعان ما يصطدم بتلك الحقيقة في ملعب السياسة حين تُكشف عوراته، ويخفق في ترجيح كفته في ميزان المصالح وتَقاسم النفوذ، وهذه من إحدى الذرائع التي يُقدمها المُعارض المتواضع فكرا وأداءً للسلطة لإبعاده، فالأنظمة السياسية لا تريد معارضة محدودة الذكاء بلهاء، سهلة الاستقطاب الخارجي، وتدور في فلك المصالح الضيقة والخطابات العنترية الجوفاء، بل تريد معارضة تُجيد مهارة اللعب السياسي، وتُتقن لغة التفاوض، وتُجيد فن التنازلات المتبادلة، فلا تَحسر نفسها وراء جدران الصراعات الصفرية، ولا تدفع النظام السياسي مضطرا باتباع أساليب القمع والإقصاء للحفاظ على استقرار الدولة. 

فالنظام السياسي مهما كان قمعيّا يظل جزءا من المشهد ولا مفر من الحوار معه، فلا يوجد في السياسة "أريد كل شيء أو لا شيء" متذرعا بأخطاء السلطة كمبرر يدفعه بطلب المستحيل في واقع إقليمي ودولي لا يملك من مقوماته شيء، بل هناك توازن واعتدال وخطاب سياسي منضبط، يُهدئ ولا يؤجج، يحترم ولا يهين، لا يُسئ للمجموع بسبب خطأ أو سياسة فرد، وتلك آفة بعض من يُطلقون على أنفسهم معارضة، ويتقدمهم شخصيات غثّة لا تُجيد سوى فن "التنويم السياسي" للضحك على أتباعهم بأن المستقبل لهم وهم عاجزون حتى عن فرض حضورهم السياسي في الحاضر.
 فترى أحدهم بين الفنية والأخرى يُطلق مبادرات ويَخلق كيانات وهياكل سياسية فارغة ليس لأجل شيء سوى مط الوقت وهدر الطاقة وجمع أكبر قدر من الغنائم، وخداع الأتباع بالتخدير تارة والتنويم تارة أخرى ليظلوا في جهل وعمى عما يدور حولهم، فليس من مصلحة الوصىّ أن يبلغ الأيتام رشدهم، كي يظل يأكل أموالهم مستريحا بغير حق. 

لكن الغريب أن أمثال هؤلاء لا يكلّوا من الحديث في "الفاضي والمليان" واستخدام لغة خطاب رثة بالية، عفا عليها الزمن فيرى الوطن في وادٍ، وهو يشطح في وادٍ أخر.

وهنا يحضرني قصة معبّرة عما تعيشه بعض الكيانات السياسية الهزيلة؛ حدثت بين الشخصية الأسطورية الإنجليزية "شارلوك هولمز" وصديقه الدكتور واتسون فالأسطورة تقول:

إن الاثنين خرجا يوما إلى رحلة كشفية، ولما جن عليهما الليل تناولا الطعام ثم استلقيا في الخيمة، وغطّ الاثنان في نوم عميق، بعد عدة ساعات، استيقظ هولمز، وأيقظ صاحبه واتسون، وقال له: انظر إلى السماء وقل لي ماذا ترى؟ نظر واتسون إلى الأعلى وقال: أرى الملايين من النجوم؛ رد عليه هولمز: وماذا يخبرك ذلك؟

فكر واتسون قليلا ثم قال: فلكيا، يخبرني الأمر أنه ربما هناك ملايين المجرات، وربما مليارات الكواكب، ومن ناحية علم التنجيم، يخبرني الأمر أن زحل في برج الأسد، ومن ناحية الوقت، يخبرني الأمر أننا في الساعة الثالثة إلا ربع تقريبا، دينيا، يخبرني الأمر عن قدرة الله الخارقة، مناخيا، يبدو أننا سنستمتع بيوم جميل مشرق غد!

ثم قال واتسون: وأنت يا هولمز ماذا يخبرك الأمر؟، سكت هولمز قليلا ثم قال: واتسون أيها الغبي، أحدهم سرق الخيمة.

 هكذا غفل واتسون عن مشكلته الحقيقية وراح يشرد بعقله في فانتزيا الخيال أمثال عواجيز سياسة الأبيض والأسود، ولم يلتفت أن خيمته مسروقة، فكم من واتسون سياسي حالم يعيش بيننا الأن، دوره أن يُلهي الناس بكلامه الفارغ عن خيمتهم المسروقة، أولئك الذين أوجفت بهم مطايا الغرورالسياسي، فسلكوا وتورطوا ظلماء سالكها مُغتر، فضلوا وأضلوا.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس