نصر الدين بن حديد - عربي21

أبعد من الرهانات الداخليّة بين الأطراف المشاركة في الانتخابات التركيّة، وما هو الاختلاف بل الصراع إن لم نقل الصدام بين المشروعين الماثلين أمام المواطن الذي تجشّم عناء التنقل إلى مكاتب الاقتراع بنسبة فاقت ما لبقيّة دول العالم، بدا جليّا أنّ الكون بأجمعه، ليس فقط مهتمّا بهذه الانتخابات، خاصّة في جانبها الرئاسي، بل حبست العواصم الكبرى في العالم الأنفاس، في انتظار ما ستؤول إليه عمليّة فرز الأصوات التي امتدّت ساعات طوال.

من الأكيد أنّ تركيا انتقلت على مدى العشرين سنة الماضية من دولة "عاديّة" تقف بين مثيلاتها من "دول العالم الثالث"، أو "السائرة في طريق النموّ"، إلى أن صارت ضمن "نادي الكبار"، ممّا أهلها للعب أدوار سياسيّة، لم تكن قادرة على الاضطلاع بها من قبل.

هذه المكانة التركيّة التي تطوّرت على مدى حكم الرئيس أردوغان أو بالأحرى حزبه العدالة والتنمية، بقدر ما أجّجت نيران "أعداء الداخل" الذين اعتبروا في الآن ذاتها توجهه الذي يطلقون عليه تسمية "الإسلامي / العثماني" ردّة عن الإرث الأتاتوركي، وثانيا مدخل قطيعة مع الجوار الغربي عامّة والأطلسي بالأخصّ، أين تحتلّ أنقرة مكانة جدّ متميزة، سواء تعلّق الأمر بحجم الجيش أو وزنه ضمن الحلف الأطلسي.

التلاقي الموضوعي أو المقصود بين أعداء الداخل وخصوم الخارج، الذين يريدون إبقاء تركيا غربيّة الهوى وأطلسيّة النهج، لم يسبقه أي محاولة أو سعي لإدماج لهذه الدولة ضمن الفضاء الأوروبي، السوق الأوروبيّة على الأخصّ، خاصّة وأنّ أنقرة أعربت عن نواياها وتقدّمت رسميا بطلب الانضمام إلى هذه المجموعة الاقتصاديّة..

الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان، الذي لا يعدو أن يكون سوى ابن أخت السياسي والدبلوماسي فرنسوا جورج بيكو، الذي شارك السير البريطاني مايك سايس، في تقسيم دول المشرق، عبر اتفاق "سايس بيكو" الذي حمل اسميهما، أعلن بكلّ صراحة أنّ «لا مكان لتركية ضمن "العائلة الأوروبيّة". كيف يمكن ـ في حال التحق هذا البلد بالمجموعة الأوروبيّة ـ القبول بأن تكون لنا حدودًا مع كلّ من سوريا والعراق وإيران؟" صحفي فرنسي علقّ: "يستطيع حينها أيّ فلاّح من الأناضول شرب قهوته في مقهى فاخر في العاصمة الفرنسيّة، وكذلك يكفي أيّ سوري أو عراقي أو إيران، تجاوز الحدود ليجد نفسه في أوروبا".

يمكن الجزم دون أدنى نقاش، أنّ وصول المفاوضات مع الطرف الأوروبي إلى طريق مسدود، ليس فقط أفهم تركية أنّ لا مكان لها ضمن هذا "النادي المسيحي" على حدّ قول المستشار الألماني السابق هلموت كول، بل أيقض في الوعي الجمعي التركي، أنّ هذا الشعب يقف على تاريخ مجيد، قوامه امبراطوريّة حكمت قرونًا، وشاركت بصفة فاعلة في إثراء الإرث البشري، بل (أكثر من ذلك) شكّلت الوعاء الذي مكّن أعراق متعدّدة وأقوام مختلفة من ديانات عدّة، من الانصهار ضمن بوتقة، لا تزال معالمها المعماريّة جليّة إلى يوم الناس هذا.

النفس الإسلامي الذي بدا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، وإن أعلن امتثاله بل تقيّده بالقالب الذي صنعه مصطفى كمال، بمعنى أنّ "التديّن" شأن فردي، ولا دخل له في أيّ شأن سياسي، إلاّ أنّه سرعان ما توسّع من وعي باطن إلى وعي ظاهر، وتعمّق من شأن فردي إلى همّ جامع.

سواء بحكم "الكمّ" أو "التكتّل"، بل هي "تكتّلات"، ومن ثمّة "الوعي" داخل هذه الذات، فهم هذا "الوليد الإسلامي" أنّه قادرة على التحوّل رقما صعبا داخل تركية وأيضًا (والأمر لا يقلّ أهميّة) على مستوى الإقليم ومن ورائه الفضاءات التي تتقاطع على أرضها أو تتصادم مصالح أنقرة مع الأطراف الأخرى.

من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أنّ استعادة الوعي بالهويّة الإسلاميّة والعمق المشرقي، لم يكن كافيا بمفرده للانتقال من دولة "متواضعة الإمكانيات" إلى ما لها من مكانة راهنًا ضمن "نادي الكبار". استطاع حزب العدالة والتنمية وضع أسس تنمية اقتصاديّة، مكّنت من رفع الناتج الداخلي الخام عشرات المرّات.

تجاوَز النجاح الاقتصادي بعده الكمّي المباشر إلى أن صار من الرافعات الأهمّ التي أسّست لما يمكن أنّ نسميه "مشروع أردوغان" الذي أمّن النقلة النوعيّة أو القفزة الكبرى التي عرفها الاقتصاد التركي.

قراءة متأنية ودقيقة لصورة تركية عمومًا والرئيس رجب الطيّب أردوغان ضمن الفضاء العربي، تثبت ذات الانقسام القائم في تركية، مع فارق، أنّ التماهي مع الرجل ومشروعه يصل حدّ الذوبان في أغلب الحالات، على اعتبار أنّ نجاح هذه التجربة في تركية هي "نجاحهم" بمعنى أنّ هذا الحزب التركي والرئيس التي يتقلّد الحكم في هذا البلد استطاع أن يثبت أنّ "الإسلام السياسي" ليس عاقرًا بما أنّ التجربة التركيّة سفّهت أحلام طيفا من مواطنيهم الذين روجوا ولا يزالون أنّ "الإسلام السياسي" عاجز كلّ العجز عن بناء تجربة حكم قادرة على الدوام وأكثر من ذلك (وهنا مربط الفرس) قادرة على تأمين الرخاء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي لأوسع قاعدة شعبية ممكنة.

من هذه الزاوية يمكن فهم الاهتمام الشديد الذي يبديه العمق الشعبي العربي بمجرى الانتخابات التركيّة... الإسلاميون حبسوا الأنفاس أثناء عدّ أصوات الدور الأوّل وها هم يعبرون عن الفرحة ويستبشرون بالفوز الذي يرونه أو هم يريدون ساحقًا في الدور الثاني لتجربة يرون فيها ذواتهم، أو هي المنارة التي تضيء واقع إسلاميا شهد العديد من النكسات.

على النقيض من ذلك يرى الطيف المعادي للإسلاميين أنّ مجرّد وجود أردوغان على رأس السلطة في أنقرة، يمثّل في بعده المجرّد "دعمًا معنويا" على قدر كبير من الأهميّة لكامل الطيف الإسلامي، وأنّ خسارة الرجل في الانتخابات الرئاسية ستمكّن من إغلاق "الملفّ الإسلامي" وأكثر من ذلك القطع بفشل أيّ تيّار إسلامي على بناء دولة من أساسه.

"الإجماع الأوروبي" على معاداة تجربة العدالة التنمية أظهر جليا أنّ الأمر ينخرط ضمن خطّة أوروبيّة / أمريكية لإعادة رسم الخارطة السياسيّة في تركية، وما يعني ذلك من إعادة تقدير للعلاقات مع الدائرة الإقليمية والدوليّة، بدءا بالشرق الأوسط، مرورا بالعلاقة مع كلّ من إيران وروسيا ووراء ذلك مجرى الحرب الدائرة في أوكرانيا، ونهاية بالدور الذي صارت الصين تلعبه بعد أن شربت "حليب السباع" معربة عن عزمها لعب الأدوار الأولى في الملفّات الأهمّ على المستوى العالمي.

جرى الدور الأوّل للانتخابات الرئاسيّة في تركيا وسط مناخ عربي قوامه مصالحة، شملت من كانوا إلى ماض قريب من ألدّ الأعداء. سياق قائم على وعي مزدوج: عدم قدرة الولايات المتحدة على لعب دور الحماية الذي اضطلعت به منذ نهاية الحرب الكونيّة الثانية، وأيضًا (والأمر لا يقل أهميّة) الدمار الشديد الذي ستوقعه أيّ مواجهة عسكريّة بين "فرقاء الأمس"، وأنّ "التنازل" مهما كان أقلّ تكلفة ممّا تمّ صرفه طوال العداوات المنقضية.

من هذا المنطلق وإضافة إلى العداوة الصريحة التي أعلنها الغرب، بل دعمه المعارضة بشتى الوسائل، يأخذ انتصار الرئيس أردوغان بعدًا متجاوزًا بكثير للبعد القُطري المباشر، بل هو ينخرط ضمن اصطفاف بدأ يتبلور..

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مواضيع أخرى للكاتب

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس