ماجد عزام - عربي 21

حضر التباين في المواقف الدولية من الانتخابات التركية، ليس فقط بين الدول وإنما بين الأنظمة والحكومات وشعوبها، حيث بدا الانحياز الغربي فجّاً وفظّاً ضد الرئيس رجب طيب أردوغان، متناقضاً مع خطاب ومزاعم دعم الديمقراطية وحق الشعوب في اختيار قيادتها بنفسها دون تدخل أو ضغوط خارجية. كذلك الموقف الإيراني الذي جاء أيضاً معادياً للرئيس أردوغان وتحالف الجمهور الداعم له، كما تبّدى في تغطية الحشد الشعبي الإعلامي الإيراني الناطق بالعربية بصفته معبراً عن الدولة الموازية والعميقة؛ التي تتحكم فعلياً بسياسات البلاد بعيداً عن الأقنعة والأذرع الظاهرية في الرئاسة ووزارة الخارجية.

مقابل ذلك، كان هناك تأييد روسي ضمني لأسباب خاصة بموسكو، دون أن يصل الأمر بالطبع إلى حد التأييد العلني للرئيس التركي والتحالف الداعم له.

أما عربياً، فقد غلب الطبع التطبع، ورغم صمت أنظمة الاستبداد نتيجة تحسّن العلاقات مع تركيا وفق المصالح المشتركة وهي جدية وواسعة وعميقة، عوضاً عن فهم أن المخطط الواسع للغرب يهدف إلى الهيمنة على تركيا وإعادتها إلى حقبة الحرب الباردة، إلا أن الآلة الإعلامية العربية التابعة لتلك الأنظمة ظلّت على حالها لجهة الانحياز ولو الضمني وغير الفجّ وغير الصريح ضد الرئيس أردوغان.
عربياً أيضاً، كان الرأي العام واضحاً وحاسماً في تمنّي فوز أردوغان، مع حسرة من الخصوم وغبطة المحبين تجاه العرس الديمقراطي الذي لا يمكن إنكاره رغم الضخّ الإعلامي الممنهج غربياً وإيرانياً وعربياً طوال السنوات الماضية لتشويه سمعة الرئيس والنظام الديمقراطي في تركيا بشكل عام.

إذن، جاء الموقف الغربي تجاه الانتخابات التركية فجّاً وفظّاً، وبالتأكيد غير مهني وغير ديمقراطي، ومناقضاً لكل الخطاب الدعائي عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، كما رأينا في أغلفة عشرات الصحف والمجلات في معظم الدول الأوروبية حتى تلك التي تدّعي المهنية والرصانة أو يفترص أنها كذلك، مثل إيكونوميست ولابوينت وإكسبريس ودير شبيغل، حيث طالت التجاوزات الرئيس والتحالف الداعم له مع اتهامه زوراً بالاستبداد، وصولاً إلى الدعوة الصريحة لرحيله عن السلطة، كما فعلت إيكونوميست على غلافها الخارجي.

ظل الموقف الأمريكي تقليدياً مع العداء طبعاً للرئيس أردوغان وسياساته، لكن لم يصل إلى الفجاجة الأوروبية. ويبدو أن واشنطن مارست هنا ما اعتادت عليه خلال العقدين الماضيين، أي سياسة القيادة من الخلف، لكن حقيقة الموقف الأمريكي نجدها في تسريب الرئيس جو بايدن الشهير عن السعي لإسقاط أردوغان بصناديق الاقتراع بعد فشل الانقلابات العسكرية في تحقيق ذلك، مع تذكر تصريح وزير الخارجية السابق جون كيري عن انقلاب 2016 الذي لم يتم تنفيذه بشكل جيد ومحترف، حسب التعبير الحرفي لكيري، رغم مقتل مئات المواطنين الأتراك وإصابة الآلاف وقصف المؤسسات السيادية مثل الرئاسة والبرلمان.
أمريكياً، حضر التدخل كذلك مع حملة الابتزاز ضد رئيس حزب وطن محرم إنجه لإجباره على الانسحاب من الاستحقاق الرئاسي بحجة تأثيره السلبي على حظوظ مرشح المعارضة كمال كليتشدار أوغلو، حيث اتهم إنجه صراحة جماعة فتح الله غولن التي تدار من ولاية بنسلفانيا الأمريكية بقيادة الحملة وفبركة الفيديوهات ضده، وهو ما أيّده مبدئياً وزير الداخلية سليمان صويلو، علماً أن التحقيق الرسمي لا يزال في بداياته، بينما قال إنجه إنه بصدد رفع دعوى قضائية ضد المتورطين، بمن فيهم رفاقه القدامى في حزب الشعب الجمهوري واللجان الالكترونية التي عملت ضده بالتواطؤ والتناغم مع جماعة غولن.

أهداف الحملة أو خلفيات العداء الغربي تكمن في رفض السياسات الراهنة بقيادة أردوغان؛ حيث النهضة الداخلية، والحضور والإصرار التركي على لعب دور خارجي تحديداً في المحيط الجيوبوليتيكي المباشر دفاعاً عن المصالح القومية، ومعادلة رابح- رابح مع الجيران، وعلى أساس المواثيق الشرعية والدولية. وهنا لا يمكن فهم لماذا تريد فرنسا مثلاً أن تلعب دوراً في آسيا الوسطى ويتم رفض فعل ذلك لتركيا؛ رغم المصالح والعلاقات المتشعبة الأبعاد مع دول وأهل تلك المنطقة!

أما روسيا فقد أيّدت ضمناً الرئيس أردوغان والتحالف الداعم له، علماً أنها لم تنخرط في الانتخابات ولم تعلن ذلك صراحة، وإنما كان حاضراً ضمنياً في سياساتها وخطابها. ورغم الخلافات والتباينات في عدة قضايا وملفات إقليمية ودولية، إلا أن موسكو حرصت دوماً على الإشادة بالسياسات المستقلة والقيادة القوية للرئيس أردوغان، ورفضه الخضوع للضغوط والوصاية والهيمنة الأمريكية، والتحوّل إلى مخلب قط وذراع للغرب كما كان الحال زمن تركيا القديمة والحرب البادرة.
وبالنسبة لإيران، فالدولة الظاهرية أو الصورية لم تعلن موقفاً رسمياً، بالطبع لكن الموقف الحقيقي الفاضح أتى من الحشد الشعبي الإعلامي الناطق بالعربية والممول والمُدار من الدولة الموازية العميقة التي تدير البلاد وترسم سياساتها (مكتب المرشد والحرس). هذا الحشد الشعبي لم يخف دعمه للمعارضة ورغبته في إزاحة أردوغان من السلطة، مع إفساح المجال للمحلّلين والكتّاب المعادين، بينما وصل الانفصال بأحدهم للقول إن المعارضة التركية بحاجة لبشار الأسد من أجل مواجهة الصهيونية والهيمنة الإمبريالية (حسب خطابهم الخشبي)، مع العلم أن المعارضة التركية مدعومة أمريكياً وغربياً كما هو ظاهر لكل ذي عينين وعقل غير أسير في رأسه.

في خلفيات الموقف الإيراني تحضر الغيرة والحسد تجاه النموذج التركي، والإعجاب والحب في الشارع العربي والإسلامي تجاه تركيا التي واجهت أيضاً بذكاء ولكن بتصميم؛ السياسات الإيرانية التوسعية والطائفية في المنطقة وتحديداً في سوريا والعراق.

يجب الانتباه إلى غياب المشهد الديمقراطي عن إيران نفسها، واستغلاله في نفس الوقت لإظهار العداء تجاه الرئيس أردوغان، ودون أي مراجعة ذاتية تجاه الأنظمة الاستبدادية التي تدعمها إيران في طول المنطقة وعرضها وتدافع عنها أبواق الحشد الشعبي الناطق العربية.

أما في المواقف العربية فرأينا تناقضا معتادا بين الرسمي والشعبي، حيث فهمت بعض أنظمة الاستبداد أن فوز الرئيس أردوغان يصب في صالح الاستقرار، بينما يسعى الغرب إلى الهيمنة حتى بثمن إشاعة الفوضى في تركيا والمنطقة، وهو ما عبر عنه كتّاب مقربون منها، غير أن الطبع غلب التطبّع في وسائل الإعلام التابعة لتلك الأنظمة، دون أن يصل الأمر إلى حد استخدام عنوان "انتخابات الديكتاتور" على الشاشة، كما العام 2018 حتى مع التغطية التي كانت منحازة عموماً ومؤيدة للمعارضة.

وفي الشارع العربي كان هناك تأييد واسع وعميق للرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية، وتمنٍ بل دعاء بالفوز في دول عربية وإسلامية، كما فعل مثلاً شيخ المسجد الأقصى رائد صلاح في القدس المحتلة.

عربياً أيضاً، كان الإجماع حتى بين المعارضين لتركيا على العرس الانتخابي، وأن ثمة ديمقراطية راسخة ومستقرة، وحضرت الغيرة "وغبطة المحبين" للشعب التركي على تدفقه المليوني نحو الصناديق بمختلف فئاته دون أي حادث أو فوضى أو حتى ضربة كف، وبالطبع ودون ابتذال ورقص وحلقات دبكة كما في الانتخابات الهزلية الصورية لأنظمة الاستبداد العربية.

كانت حسرة عربية كذلك وتمنيا أن نرى هذا المشهد في أوطاننا التي تبتعد أكثر للأسف خاصة بعد تمكن الثورات المضادة عن الديمقراطية والاحتكام السلمي الى صناديق الاقتراع لحسم الخلافات والتباينات السياسية والحزبية، كما رأينا بالعرس الديمقراطي الكبير والمبهج في تركيا.

عن الكاتب

ماجد عزام

كاتب ومحلل سياسي فلسطيني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس