صالحة علام - الجزيرة مباشر

عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية سارع الرئيس أردوغان إلى إجراء تغييرات وزارية هامة في إطار تجهيزاته لفريق العمل الذي سيصاحبه في المرحلة الجديدة التي أطلق عليها اسم “مئوية تركيا”، وهي مرحلة تُعد بمثابة خريطة طريق تهدف إلى إعلاء شأن تركيا على الصعيدين الإقليمي والدولي، وترسيخ مكانتها في النظام العالمي الجديد الذي يتم التحضير له حاليا.

وفي أحد تصريحاته التي أدلى بها قبيل الانتخابات، أوضح أردوغان أنه يسعى من خلال هذه المئوية إلى المضي قدما في تحويل أحلام تركيا التي ترجع إلى قرون سابقة إلى واقع ملموس يترك بصمته على القرن الجديد، الذي تستعد له البلاد بكل همة ونشاط، مؤكدا أن هذا لن يتأتى إلا من خلال توحيد القوى ونبذ الخلافات.

الحديث عن نبذ الخلافات الذي أشار إليه أردوغان يقودنا مباشرة إلى الملفات الأكثر سخونة المطروحة على طاولة الرئيس أردوغان في الفترة الأولى من رئاسته الثانية، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.

ولعل أول الملفات الداخلية الصعبة التي تمثل تحديا حقيقيا له ولفريق العمل المصاحب له، هو حالة الاستنفار والترقب التي يعيشها الشارع التركي، بعد أن شهدت مرحلة الانتخابات حالة من الاستقطاب نتيجة الخطاب العنصري الذي تبنته أحزاب المعارضة خلال حملاتها الدعائية، مما أدى إلى تفشي العداء والكراهية بين مختلف شرائح المجتمع التركي، وبين المجتمع التركي وبين الأجانب المقيمين في تركيا، خصوصا أولئك الذين ينتمون إلى العالم الإسلامي، وفي مقدمتهم بالطبع اللاجئون السوريون.

ومن الأمثلة الصارخة لهذا العداء، التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي؛ اعتداء صاحب مقهى لفظيًّا على امرأة محجبة وطردها وأطفالها من المقهى، ورفض صاحب مخبز بيع الخبز لصبي لأنه كان يدندن بأغنية حملة أردوغان الانتخابية، قائلا له: اذهب نحن لا نبيع الخبر للكلاب، ولما ذهب أهل الصبي للاستفسار منه عن سبب رفضه بيع الخبز لنجلهم، ونعته بالكلب، ازداد غضب الرجل، وتطاول عليهم بترديد جملته العنصرية مرة أخرى أمامهم قائلا نعم أنا لا أبيع الخبز للكلاب، وطردهم من مخبزه.

إعادة اللُّحمة للمجتمع بعد هذه المرحلة تتطلب بذل جهود خارقة من جانب الوزارات المعنية بالتواصل مباشرة مع الجماهير، وإنفاذ القانون، والقيام بحملات توعية متعددة تكون مهمتها الأساسية التأكيد على أن هذا الوطن يسع الجميع، وأن الدولة لا تفرق في تعاطيها مع شعبها بين مواطن وآخر، لا وفق المعتقدات الدينية والمذهبية، ولا وفق الانتماءات القومية أو الحزبية، وأن جميع المواطنين سواء، لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات دون تفضيل أو تمييز، واعتماد سياسة الضرب بيد من حديد على كل من يحاول إحداث فرقة بين أبناء الوطن أو الترويج لفتنة تهدد الأمن والسلم الاجتماعي في البلد، لما لذلك من انعكاسات سلبية متعددة أمنيا واجتماعيا واقتصاديا في ظل التصريحات التحريضية التي صدرت من بعض رؤساء أحزاب المعارضة بعد خسارتهم الانتخابات، إذ أعربوا عن حزنهم العميق للسلبيات التي ستواجه تركيا خلال الفترة المقبلة، بعد انتهاء السباق الانتخابي الذي وصفوه بأنه غير عادل، مطالبين أنصارهم ومن صوتوا لصالح التغيير بضرورة التصدي لما سموه محاولات تقليص حجم الديمقراطية في البلد.

أما ثاني الملفات الهامة التي يجب أن تحظي بالكثير من الاهتمام والرعاية لما لها من أهمية على المستوى الاجتماعي؛ فهو ملف إعادة إعمار المحافظات العشر التي ضربها الزلزال المدمر في السادس من شهر فبراير/ شباط الماضي.

فوفقًا لإحصائيات الأمم المتحدة تحتاج هذه العملية إلى حوالي 100 مليار دولار، وذلك لإعادة بناء مئات الآلاف من المباني، وتشييد المدن التي دمر الزلزال مبانيها كلّيًّا، إلى جانب إعادة تأهيل البنية التحتية التي تشمل إمدادات المياه والغاز والكهرباء، وشبكة الطرق والجسور، والسكك الحديدية بأنواعها، والموانئ والمطارات.

ولما كانت عملية الإعمار تحتاج إلى الكثير من الأموال لإعادة الحياة إلى طبيعتها في هذه المحافظات، فإن الاعتماد على خزينة الدولة بمفردها لتمويلها يبدو أمرا غير منطقي؛ لهذا تخطط الحكومة لمشاركة القطاعين العام والخاص في ذلك، خصوصا أن حملة التبرعات الشعبية استطاعت في وقت قياسي جمع حوالي خمسة مليارات دولار، الأمر الذي يعني إمكانية جمع مبالغ أخرى لهذا الغرض، إضافة إلى المساعدات الدولية.

أما الملف الثالث الذي يمثل كذلك تحديا حقيقيا أمام الرئيس وحكومته الجديدة فهو ملف الاقتصاد؛ وفي القلب منه مسألة ارتفاع نسبة التضخم، التي تلتهم دخول المواطنين، وتولد الكثير من الغضب في النفوس، خصوصا في ظل الانتقادات الحادة التي توجهها المنظمات المالية العالمية وأحزاب المعارضة للسياسة الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة، والتي تخالف في مجملها الأنظمة العالمية المعمول بها في دول العالم، المعتمدة على نظام رفع سعر الفائدة في مواجهة التضخم، حتى بلغ الأمر بأحزاب المعارضة المطالبة بضرورة استقلال البنك المركزي عن التوجهات الرئاسية، التي تمثل خطورة من وجهة نظرهم على الاقتصاد التركي.

وفي المقابل تعتمد سياسة أردوغان على مبدأ خفض معدلات الفائدة مقابل دعم الاستثمار في المشروعات الصغيرة والمتوسطة، لما لذلك من آثار إيجابية على المدى الطويل، إذ تساهم هذه السياسة في الحد من معدلات البطالة، وفي زيادة إجمالي حجم الإنتاج المحلي الذي يُستفاد منه في عمليات التصدير، وبالتالي جلب المزيد من العملات الأجنبية لخزانة الدولة. وهي السياسة التي يرفض أردوغان التخلي عنها رغم الضغوط الشديدة التي يواجهها، لإدراكه للفوائد الجمة التي ستنتج عنها.

وعلى صعيد العلاقات الخارجية يمثل ملف العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية أبرز التحديات الخارجية، وأكثرها صعوبة، بعد أن زادت حدة التوتر بين البلدين خلال مرحلة الانتخابات الرئاسية؛ إذ دعمت واشنطن بشكل علني أحزاب المعارضة؛ ومرشحها للرئاسة كمال كليجدار أوغلو، وهو التوتر الذي بلغ مداه بالزيارة الرسمية التي قام بها السفير الأمريكي في أنقرة جيف فليك لكليجدار أوغلو في مقر حزبه حزب الشعب الجمهوري قبل موعد الاستحقاق الانتخابي بأسابيع قليلة.

وهي الزيارة التي تناولتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية، ووصفها أردوغان بأنها تخطٍّ واضح لكافة الأعراف الدبلوماسية التي تحكم عمل السفراء في الدول المضيفة، معلنًا رفضه لقاء السفير مرة أخرى، وإغلاق الباب في وجهه.

هذا إضافة إلى محاولات واشنطن ليّ ذراع تركيا، من خلال مقايضة موافقتها على انضمام السويد لحلف الناتو بتسليمها صفقة طائرات أف 16 المعدّلة، التي ترغب أنقرة في الحصول عليها مقابل مبلغ مليار وأربعمائة مليون دولار سبق أن دفعته خلال مشاركتها في إنتاج طائرات أف 35.

وهو المشروع الذي أخرجت واشنطن أنقرة منه؛ عقابًا لها على شرائها صواريخ أس 400 الدفاعية من موسكو.

ويتصل بهذا الجانب أيضا ملف تحسين العلاقات مع مجال تركيا الإقليمي، والعودة مرة أخرى إلى سياسة تصفير المشاكل التي دأبت الحكومة التركية على انتهاجها لما تحققه من مصلحة لها على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

يتصدر هذا الملف علاقات أنقرة مع كل من القاهرة ودمشق، حيث تحل لها عودة العلاقات مع الأخيرة مشكلة داخلية ذات بُعد جماهيري، وهي الأزمة التي تعاني منها الحكومة منذ فترة بسبب حالة الرفض التي تسود الشارع التركي لهذا العدد الهائل من اللاجئين السوريين.

كما يصب تحسين علاقاتها مع القاهرة في صالح اقتصادها، فمصر ذات المئة والخمسة ملايين نسمة تمثل سوقا استثماريا كبيرا، ومنفذا ضخما لتوزيع المنتجات التركية إلى جانب أن عودة هذه العلاقات ستصب دون شك في صالح قطاع السياحة التركي.

هذا إضافة إلى الانفتاح على القارة الأفريقية، ودول آسيا الوسطى، الأمر الذي من شأنه أن يرفع رصيدها عالميا، ويزيد قدرتها على تحقيق المكانة الدولية التي تطمح إلى الوصول إليها في قرنها الجديد.

عن الكاتب

صالحة علام

كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس