سعيد الحاج - الجزيرة نت 

منذ الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو/تموز الحالي، وجهت السلطات التركية أصابع الاتهام إلى ما يسمى "التنظيم الموازي"، كما كشفت التسريبات الأولية لعملية التحقيق معلومات مخيفة حول عمق تغلغله في مؤسسات الدولة المختلفة سيما المؤسسة العسكرية، بما قدم صورة له في الدوائر السياسية والإعلامية أشبه بالأسطورة.

جماعة الخدمة
التنظيم الموازي أو الكيان الموازي هو المصطلح السياسي والإعلامي المستعمل في تركيا للإشارة إلى المجموعة القيادية المتنفذة في جماعة "الخدمة" التي يتزعمها الداعية فتح الله غولن المقيم في بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية منذ 1999. وجماعة الخدمة هي إحدى الجماعات الفرعية التي أنشأها تلاميذ الداعية الشهير سعيد النورسي، لكنها الأشهر إعلاميا والأقوى حضورا في تركيا بسبب طريقة إدارة غولن لها.

فالرجل الذي رفع شعار النورسي "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والسياسة" ولم يؤسس يوما حزبا سياسيا اعتبر أن الجهل أكبر مشاكل تركيا الحديثة فأسس جماعية تربوية دعوية خدمية (ومن هنا جاء اسمها) تعنى بالتعليم والطلاب، لكنها تحولت مع الزمن إلى إمبراطورية ضخمة تضم -على الأقل- خمس شركات قابضة عملاقة ضمن أكثر من 9 آلاف شركة وعدد من المصارف، إضافة لعشرات المؤسسات الإعلامية بمختلف أنواعها و 17جامعة و96 وقفا و900 جمعية وعشرات المدارس خارج تركيا، وقد قدرت عريضة الادعاء بحق التنظيم والتي نشرتها صحيفة يني شفق (المقربة من الحكومة) ميزانيته بـ 150 مليار دولار أميركي!

وبالتوازي مع هذه الإمبراطورية الناشطة في المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، عملت الجماعة وفق تعليمات زعيمها على التغلغل في كل مؤسسات الدولة للسيطرة عليها، وقد كان لها ذلك في عدد منها وفي مقدمتها المؤسسات الأمنية الشرطية والقضاء وجهاز الاستخبارات ثم المؤسسة العسكرية كما اتضح مؤخرا.

ولئن تحالفت الجماعة مع حزب العدالة والتنمية في بداياته وفق مبدأ المصلحة المشتركة والربح للجميع، كاسبة نوابا ووزراء وإطارا سياسيا قانونيا حمى تغلغلها في مفاصل الدولة مقابل دعم الحزب الحاكم شعبيا وإعلاميا وبالكوادر البشرية، إلا أن الهوة اتسعت بينهما بعد سنوات عدة بسبب الصراع على السلطة على مستويي الحزب والحكومة، وقد اتضح ذلك بشكل جلي في عدة محطات أهمها محاولة اعتقال رئيس جهاز الاستخبارات هاكان فيدان في فبراير/شباط 2012، وقضايا الفساد في ديسمبر/كانون الأول 2013 (والتي أسمتها الحكومة التركية "الانقلاب القضائي")، وأحداث حديقة "جزي" في مايو/أيار 2013، ثم في المحاولة الانقلابية مؤخرا.

الماسونية الإسلامية
احتدمت المواجهة بين الحكومة التركية من جهة وبين الجماعة من جهة أخرى بعد "الانقلاب القضائي" نهاية 2013، وحاولت الأولى مكافحة الثانية وإقصاء مناصريها من مؤسسات الدولة، لكنها لم توفق تماما سيما في المؤسستين القضائية والعسكرية (نجحت جزئيا في المخابرات والشرطة)، بسبب السقف القانوني وضعف دعم المعارضة لها وعدم سيطرتها على الجيش وتنفذ الجماعة نفسها في السلك القضائي (وهو العامل الأهم) وهو ما حماها كثيرا وساهم في إطلاق سراح العديد من المتهمين المحسوبين عليها قبل أن يغادروا البلاد!

من جهة أخرى، طالت توقيفات السلطات التركية بعد الانقلاب أكثر من 13 ألف شخص على ذمة التحقيق حتى كتابة هذه السطور، من بينهم حوالي 120 برتبة جنرال/أميرال فما فوق (وهو ثلث عددهم في كامل المؤسسة العسكرية) ضمن حوالي 9000 منتسب للجيش و100 قاض ومدع عام. ومن ضمن الموقوفين من المؤسسة العسكرية بتهمة المشاركة في الانقلاب والانتماء للتنظيم الموازي قادة الجيوش الثاني والثالث والرابع والقائد السابق للقوات الجوية والمساعد العسكري (الياور) للرئيس أردوغان والمساعد العسكري لرئيس أركان الجيش والمستشار القانوني السابق لرئاسة الأركان وقائد القوات التركية في قاعدة إنجيرليك العسكرية ذات الأهمية الإستراتيجية، وغيرهم الكثير.

ولعل الملحوظة الرئيسة إزاء هذا العدد الضخم من الموقوفين في المؤسسة العسكرية ورفعة رتبهم هو عدم تناغمه مع تواضع حضور الجماعة الشعبي وقوتها التصويتية التي لم تزد عن 500 ألف إلى مليون صوت في عدة مناسبات انتخابية قريبة، وهو ما يطرح سؤالا وجيها حول آليات عمل الجماعة/التنظيم وقدرتها على هذا الاختراق العميق. لا شك أن السبب يمكن في الفارق الكبير بين آليات العمل الجماهيري العلني وأساليب الاختراق التنظيمية السرية التي اعتمدها التنظيم في مختلف مؤسسات الدولة سيما العسكرية، وأهمها:

- تسريب أسئلة امتحان دخول الجامعة (ÖSYM) وامتحان التوظيف في القطاع الحكومي (KPSS) وامتحان الثانويات العسكرية وغيرها، بحيث يضمن التنظيم أكبر عدد ممكن من منتسبيه في الجامعات بشكل عام وفي المدارس الحربية بشكل خاص، وثمة قضايا مرفوعة بهذا الشأن من سنوات ولم يحسم القضاء قراره فيها بعد.

- النفاذ إلى مناصب مهمة في جهاز الاستخبارات العسكرية في مختلف قطاعات الجيش.

- التغلغل والسيطرة على "القيادة المركزية لتأمين الموظفين" في قطاعات الجيش.

- التزام السرية التامة والطاعة العمياء والتقية السياسية، بحيث يخفي الضابط انتماءه وأفكاره ولو اضطر لترك الصلاة (إلا بالإشارة) أو شرب الخمر ليدحض فكرة "الإسلامية" عن نفسه. ومن الجدير بالاهتمام في هذا السياق اعترافات المساعد العسكري لرئيس أركان الجيش كما وردت في الإعلام التركي والتي تحدث فيها عن "الصلاة بالإشارة برموش العيون" لعدم افتضاح أمرهم وأن أفراد التنظيم في الجيش لا يعرفون بعضهم البعض بل كل واحد منهم مرتبط مع أحد "الإخوة الكبار" (علاقة خيطية وليست شبكية).

- دعم وتوظيف وترفيع بعضهم البعض في مختلف مؤسسات الدولة.

هذه الأساليب السرية والمريبة التي ينتهجها التنظيم، والتي أسميتها في بعض مقالاتي "الماسونية الإسلامية" لتشابهها بأساليب المحافل الماسونية حول العالم، أدت إلى تغلغل كبير لأفراد التنظيم في المؤسسة العسكرية على مدى عشرات السنين وخصوصا بعد تسعينات القرن الماضي وهو ما تسارع في عهد العدالة والتنمية.

بهذه الطرق وعلى مدى عشرات السنين امتلك التنظيم القدرة على إدخال أبنائه بأعداد كبيرة إلى المؤسسة العسكرية وترقيتهم وتوظيفهم وحمايتهم من الانكشاف عبر غطاء الاستخبارات العسكرية، إلا أن العملية بقيت بطيئة والطريق طويلة، ولذلك لجأوا إلى آلية ترفيع فاعلة وسريعة من خلال تلفيق أدلة ورفع قضايا على عدد كبير من الضباط والعسكريين من مختلف الرتب بتهمة التخطيط لانقلاب عسكري على الحكومة أهمها "أرغنكون" (2007) و"المطرقة" (2010) و"التجسس العسكري" (2011) التي تم فيها اتهام وتسريح العشرات من الرتب الرفيعة في الجيش في مقدمتهم رئيس الأركان السابق إلكر باشبوغ، وبالتالي استطاعوا ملء هذه الفراغات الكبيرة والمهمة بعناصرهم الذين قفزوا على مستوى الرتب قفزات كبيرة وسريعة.

إجراءات استثنائية
هذه القدرات التنظيمية العالية أشعرت الحكومة التركية بخطر شديد من التنظيم ودفعتها إلى مواجهته ومحاولة إخراجه من المفاصل المهمة في مؤسسات الدولة، وقد سجلت نجاحا ملحوظا في أجهزة الشرطة والأمن والاستخبارات، كما وضعت يدها على الكثير من مؤسساته المالية والإعلامية والأكاديمية بعد أن أعلنه مجلس الأمن القومي التركي في مايو/أيار 2016 "منظمة إرهابية"، ولم يبق له من قوة إلا في القضاء والجيش.

وإضافة إلى الخطوات المتتالية للحكومة في السلك القضائي وإعادة هيكلة الهيئة العليا للقضاة والمدعين العامين، فقد سربت وسائل الإعلام التركية قبل أسابيع نية المؤسسة العسكرية إحالة أعضاء التنظيم في الجيش إلى التقاعد و/أو التحقيق في اجتماع "مجلس الشورى العسكري الأعلى" الدوري في الأسبوع الأول من آب/أغسطس، مما دفع بالمجموعة التي خططت للانقلاب إلى تقريب موعد التنفيذ استباقا للقرار.

بيد أن لحظة فشل الانقلاب شكلت للحكومة على ما يبدو فرصة ذهبية للانتقال من مستوى الإصلاح التدريجي إلى الإجراءات "الثورية" الجذرية، فتابعنا خلال أيام قليلة كف يد عشرات الآلاف من موظفي الحكومة في مختلف الوزارات والدوائر عن العمل مؤقتا على ذمة التحقيق بدعوى مكافحة التنظيم الموازي في ظل حالة الطوارئ التي أعلنت في البلاد.

يشير حجم التوقيفات في التحقيق الجاري إلى وجود شخصيات و/أو تيارات من الجيش ساعدت التنظيم الموازي في العملية الانقلابية أو سكتت عنه أو اتخذت موقفا محايدا انتظارا للنتيجة، لكن الرواية الحكومية تتهم التنظيم حصرا، استثمارا لفرصة ذهبية لتصفيته، وتحييدا لمن يمكن تحييده من المؤسسة العسكرية ليلة الانقلاب، وحفاظا على سمعة المؤسسة العسكرية وتماسكها ووحدتها على المدى البعيد. ولئن حظيت التوقيفات والاعتقالات بدعم حزبي وشعبي، إلا أن "تطهير" كافة المؤسسات من "أنصار" الجماعة يبدو قرارا خطيرا على المدى البعيد.

فمن الناحية القانونية المبدئية هناك الكثير ممن انتموا للتنظيم بنوايا سليمة ولا يقرون الانقلاب وما تخلله من تصرفات إجرامية، ومن ناحية عملية فنحن إزاء مئات الآلاف وعوائلهم ومعارفهم يجب عدم استعدائهم وتركهم أمام الاختيار بين الإقصاء ومواجهة الدولة.

ومن ناحية سياسية براغماتية فثمة حاجة لفتح الباب أمام الأنصار للتبرؤ من الجرائم التي حصلت ولا يقرونها، ومن ناحية إستراتيجية -وهي الأهم- تحتاج الحكومة التركية إلى احتواء هؤلاء الأنصار وخصوصا الشباب المغرر بهم بعيدا عن قيادة التنظيم وكسب عاطفتهم ونشاطهم لمصلحة البلاد، ومن هذه الزاوية تبدو حملة الإقصاء مضرة على المدى البعيد أكثر من نفعها.

ولئن وجب التذكير بأن كل الموقوفين حاليا ما زالوا قيد التحقيق وأن المحاكم هي الوحيدة المخولة بإدانتهم أو تبرئتهم، فإن مهمة الحكومة الرئيسة تكمن في تحقيق سريع وشفاف قدر الإمكان ليس فقط لتأكيد مصداقيتها أمام الشعب وضمان دعمه لخطواتها القادمة، ولكن أيضا لحماية النسيج المجتمعي وتجنب الظلم أو الافتئات على أحد؛ إذ يجب عدم تجريم الفكر بل مقارعته بالفكر (سيما الشباب المتحمس المخدوع)، وأما العقوبات فيجب أن تحصر بالمتورطين في جرائم أو أفعال غير قانونية.

تعرف الحكومة التركية أنه لا يمكن القضاء على أي مجموعة أيديولوجية ذات حاضنة شعبية سيما إن كانت مسلحة، وتدرك بالتأكيد أن هذه المحاولة الانقلابية قد لا تكون الجولة الأخيرة مع التنظيم، وبالتالي فالقرار الإستراتيجي ينبغي أن يدور حول كسر جموح قوتها وطموحها الخارج عن إطار القانون، واحتواء الأنصار والأتباع في سياقات تخدم الدولة والمجتمع وتستثمر عاطفتهم وحيويتهم وعملهم الدؤوب، وفي المجتمع التركي من التيارات الدينية والفكرية ما يمكن أن يملأ الفراغ الفكري الدعوي الذي سيحتاجه هؤلاء باقتدار على المدى البعيد.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس