د. سمير صالحة - العربي الجديد

بدأ قرار تركيا الدخول على خط الوساطة في الأزمة الخليجية ميدانيا من خلال زيارة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إلى قطر، ثم الكويت والسعودية، على أمل مواصلة جولته على بقية الدول الخليجية الفاعلة في موضوع الأزمة. وقد سبقت هذا التحرك التركي اتصالات مكثفة أجرتها أنقرة مع وسطاء وعواصم إقليمية كثيرة، دخلت على خط الأزمة، عربية وإسلامية وغربية. 

قال جاويش أوغلو إنّ بلاده تبذل جهوداً مكثفة، وتواصل مساعيها الدبلوماسية ولقاءاتها مع أطراف الخلاف، في سبيل إنهاء الأزمة في أقرب وقت ممكن. وقال المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، إن في وسع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز أن يلعب دورا اساسيا في الحل، على اعتبار أنه قائد أكبر دولة في الخليج. وأكد سفير تركيا لدى قطر، فكرت أوزر، إن بلاده في اتجاه حل الأزمة بين الأشقاء الخليجيين، عبر الحوار ودعم آليات التواصل الدولي، لكن مشكلة تركيا تبقى في وقوفها المبكر مع الدوحة، ورفض إجراءات الحصار المتخذة بحق قطر، وبالتالي محاولة إقناعها السعودية (الأخ الأكبر) والإمارات والبحرين أن موقفها هذا لا يعني بالضرورة أنها انحازت إلى طرفٍ على حساب طرف آخر. 

هل بمقدور أنقرة حقا أن تلعب دور الوسيط أو أن تفاجئنا، بصفتها رئيس الدورة الحالية لمنظمة الدول الإسلامية، بالدعوة إلى عقد قمة استثنائية مصغرة في اسطنبول، لبحث سبل تطويق التوتر الخليجي، أم أن معادلة "مع قطر، ولكن ليس ضد السعودية" التي تبنتها في اليوم الأول لاندلاع الخلاف، وقرار تسريع إقرار الاتفاقيات العسكرية الموقّعة مع الدوحة، والتمهيد لإرسال قرابة ثلاثة آلاف جندي تركي إلى القاعدة العسكرية التركية في قطر والجسر الغذائي التمويني العاجل الذي بنته خلال ساعات مع الدوحة، وقرار استقبال وزير الخارجية الإيراني، جواد ظريف، في اليوم الأول للأزمة، لا علاقة له بموضوع التوتر الخليجي الخليجي، وأن هذه الأمور لن تكون من الأسباب التي ستقيّد الدور والحماس والاندفاع التركي باتجاه احتواء الأزمة، وعدم تعقيد الأمور أكثر فأكثر؟ 

حقيقة لا يمكن إغفالها، وهي أن أنقرة دخلت عملية الاصطفاف باكرا إلى جانب قطر، وأن مقولة "الحياد الإيجابي" لا يمكن إنكارها، مهما تجنّبت أنقرة استفزاز العواصم الخليجية الواقفة في الجانب الآخر من التوتر أو إغضابها. وقد تحول موقف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من الأزمة الخليجية الذي بدا متوازنا وحريصا على حماية العلاقات مع الجميع هناك، سريعا إلى حديثٍ عن "لعبةٍ ما تدار خلف كواليس الأزمة، لم نتعرف إلى تفاصيلها بعد"، ثم إعلانه أن تركيا ستتمسك "باستمرار تطوير العلاقات وتقديم كل أنواع الدعم للدوحة"، ولتحسم لاحقا برفضه تهمة دعم الإرهاب الموجهة إلى قطر، وعدم قبول الاعتماد على "الافتراءات" في العلاقات بين الدول، ومطالبته برفع الحصار عن قطر "تماماً ونهائياً"، لأنه عمل "لاإنساني، ومخالف للتعاليم الإسلامية". 

ما تقوله القيادات السياسية التركية، منذ بداية الأزمة، هو أن الانحياز التركي للدوحة ليس محبةً بها على حساب بقية دول الخليج، وليس رغبة تركية في التخلي عن خطوات تطبيع العلاقات وتحسينها بصعوبةٍ بالغة مع السعودية والإمارات، ولا بناء معادلة اصطفاف إقليمي جديد، تكون تركيا وقطر فيها "جنبا إلى جنب ضد الإخوة في الخليج"، بل نتيجة دلائل ومؤشرات وقناعات تركية تترسخ، يوما بعد آخر، حول ما يجري الإعداد له شرق أوسطيا وإقليميا. فما هي الأسباب التي دفعت تركيا للانحياز إلى قطر على هذا النحو، وفقدان حظوظها في البقاء على مسافة واحدة من جميع الدول الخليجية، تمكّنها من لعب دور الوسيط أو المسهل في التسوية؟ 

ترى أنقرة أن ما يجري يستهدف حليفا استراتيجيا مهما لها، ويتضمن محاولة تشويه صورة قطر، عبر حملاتٍ دعائيةٍ تتعارض كليا مع خطط تحقيق الوحدة الخليجية، وإن محاولة محاصرة شعب على هذا النحو عمل غير إنساني، ومخالف لتعاليم الإسلام وقيمه. وإن المعادلة المرفوعة بوجه قطر، أن لا خيارات كثيرة أمام الدوحة سوى أن تقرأ الوضع "قراءة صحيحة"، وإعلان الاستعداد لقبول كل المطالب والشروط التي طرحتها هذه الدول وتنفيذها فيها إجحافٌ كثير. ولن يستغرق الأمر وقتا طويلاً، حتى يحين دور تركيا، وتكون الهدف التالي للمشروع الأميركي مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، لأن أنقرة لم تخف تأييدها جماعة الاخوان المسلمين في الأزمة المصرية، ولم تتردد في الوقوف مع حركة حماس الفلسطينية في مواجهتها مع إسرائيل في قطاع غزة، وما تتحدث عنه البيانات الخليجية الرسمية في حيثيات التهم قد يتم استخدامه ضد تركيا لاحقا من دون تردّد. وإن تسريع قرار التضامن العسكري مع قطر رسالة تركية مفادها أن أنقرة لن تفرّط بحليفها القطري، على الأقل ردا لجميله حيالها في السنوات الأخيرة أولا، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي في حال تدهورت الأوضاع في المنطقة ثانيا. 

الواضح هنا أن أنقرة التي اعتبرت نفسها حليفا وشريكا لدول الخليج، في أكثر من لقاء وقمة وبيانات ختامية وخطط تعاون وتنسيق استراتيجي مشترك، أزعجها صدور بيانات التصعيد على هذا النحو، من دون إبلاغها بها مسبقا باسم التحالفات الجديدة، وتنكّرا لدورها الذي لعبته إبّان الأزمة الاولى عام 2014، ومحاولة واضحة لإخراجها من المشهد باتجاه تفعيل قرار محاصرة قطر وعزلها أولا، ثم إضعاف الشراكة القطرية التركية المترسخة أكثر فأكثر ثانيا. وتقول تركيا إنها، في تفاهماتها مع دول الخليج، تحرّكت دائما على أساس حماية العلاقات المشتركة مع البيت الخليجي، انطلاقا من مبدأ "أنا وابن عمي على الغريب"، فوجدت القاعدة تتحول إلى "أنا والغريب على ابن عمي". 

أنقرة غاضبة، لأن تضييق الخناق على قطر، واستهدافها بهذا الشكل يعني استهداف مصالح تركيا وقطر الاستثمارية والعقود التجارية والعسكرية والإنمائية المشتركة التي وصلت قيمتها إلى 40 مليار دولار، وفي مقدمتها مشاريع التجهيز للمونديال الذي تنظمه قطر بعد ست سنوات. 

ترفض أنقرة أيضا ما يقال حول أن المصادفة وحدها هي التي جمعت هذا التحرك العربي الواسع ضد قطر، بعد أيام فقط على مغادرة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المنطقة، وهي متمسكةٌ بالربط بين ما تعد له واشنطن في الإقليم، وخطط لعب ملفات تنظيمات وقوى عديدة ضدها هي، قبل أن يكون ذلك ضد قطر، وإلا ما معنى أن ترفض الإدارة الأميركية كل تحذيرات أنقرة في عدم لعب ورقة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، والذي ترى فيه هي تنظيما إرهابيا. ومن يريد أن يطالب أنقرة بقطع علاقاتها مع تنظيمات يصفها بأنها إرهابية عليه هو الآخر أن يحترم هذا المبدأ، وأن تكون المعاملة بالمثل على أقل تقدير. 

سحب مشروع الاتفاقية العسكرية التركية القطرية من أدراج البرلمان التركي، ومناقشته وإقراره بهذه السرعة، انحياز تركي غير قابل للنقاش للموقف القطري، ورسالة إقليمية ودولية أن تركيا ستواصل اتخاذ مزيد من التدابير والقرارات، وستكون هناك مفاجآت ثنائية وإقليمية أخرى، إذا ما تمسكت واشنطن بمواصلة لعبتها الإقليمية الجديدة على هذا النحو. وبذلك، فإن محاصرة قطر وعزلها مشروع أميركي بامتياز لإطاحة "المتمرّد" أردوغان وقطع الطريق على خطط تعزيز التقارب التركي القطري الإقليمي، وإبعاد قطر عن تركيا ومنع الوجود العسكري التركي في الخليج. 

تقارير استخباراتية تركية وأوروبية بدأ الإعلام التركي في الكشف عن تفاصيلها تلتقي عند تقاطع أن عملية عزل قطر جرى الإعداد لها قبل أسابيع، وأنها خطة متعددة الأهداف، وستكون على مراحل، تبدأ بإخراج قطر من المشهد الإقليمي، ثم الانتقال إلى المرحلة الثانية، باتجاه محاصرة تركيا وتعطيل دورها في ما بعد معركة الرقة، لناحية تسهيل نقل ما تبقى من مجموعاتٍ تابعةٍ لتنظيم داعش إلى بقعة جغرافية جديدة، وتفعيل دور حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومشروعه التفتيتي في سورية، ومحاصرة أنقرة بقرار الاستفتاء على إعلان الدولة الكردية في شمال العراق الذي سيكون تمهيدا لمحاولة جديدة باتجاه إشعال مدن جنوب شرق تركيا وقراها المعروفة بغالبيتها الكردية. 

يبدو أيضا أن جولات أردوغان الاستراتيجية، الآسيوية والأفريقية أخيرا، وخصوصا على خط بكين اسطنبول، وإعلانه أن خط الحرير المعولم قادم لربطه بمشروع الطاقة التركي الروسي بشراكة قطرية، وإصرار إيران على أخذ مكانها فيه هي بين أسباب التحرّك الأميركي السريع لتوجيه الضربات إلى شركاء تركيا، ولتكون البداية مع قطر. الرد التركي الإيراني الروسي الأوروبي والصيني السريع يعكس هذه الحقيقة ويؤكدها. 

ستكون طريقة التعامل التركي مع الأزمة الخليجية، بعد الآن مرتبطة بحجم خطط الاصطفافات الإقليمية الجديدة برعاية أميركية والمواجهات المحتملة حول مشروع رسم خريطة الشرق الأوسط الموعود، بحدود ومصالح ومشاريع مختلفة، ونماذج سياسية ودستورية مبتكرة، وبنى عرقية ودينية واقتصادية تتناسب مع تفعيل خطة "الشعوب الحرة" في الشرق الأوسط، بطابع كونفدرالي ودولة كردية كبرى وسلام يضمن لإسرائيل أن تكون الأقوى في المنطقة، ونفوذ أميركي يراقب ويتحكم، ويجمع الواردات بين حين وآخر. 

هناك قناعة تركية بدأت تتعزز لدى الخبراء والأكاديميين والإعلاميين الأتراك عن السبب الآخر للأزمة الخليجية، وهي أن مهمة "الربيع العربي" شارفت على الانتهاء، وجاء دور الربيع التركي والإيراني والخليجي الذي لا مفر منه أميركيا، لاستكمال خطة التمدّد والنفوذ الكردي الإسرائيلي، إكمال ما تبقى من عملية التدمير والتفتيت، ثم إطلاق مشروع البناء الإقليمي الجديد.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس