ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس

قال المسيح لرجل: اتبعني، أي امضِ معي، فرد الرجل ائذن لي أن أمضي أولا وأدفن أبي، فقال المسيح كلمته المشهورة: (دع الموتى يدفنون موتاهم).

تمر على الأمم لحظات تحفر في ضمير شعوبها، وتبقى للتاريخ علامات مهما طال الزمن لا تنسى، حتى ولو حاول أحدهم محوها أو التعمية عليها، في أيام الله التي ينصر بها المستضعفين ويحق بها الحق ويزهق الباطل ويمن بها على المستضعفين، فتبقى في نفوسهم تثبيتا ليكملوا مسيرهم في طريق الحق فيضحون بأموالهم وأرواحهم مستبشرين، فالحق والعدل والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية قيم لا يعرف التضحية من أجلها إلا من ذاقوا الحرمان منها.

في الرابع والعشرين من يونيو عام 2012 توقفت الحياة وكتم الجميع أنفاسه وتوجهوا بأنظارهم صوب شاشات التلفاز، حيث جلس رجل رمادي الشعر له شارب بنفس لون شعره ويرتدي نظارة طبية ويمسك بيده في ورقة على منضدة يجلس بجواره أربعة قضاة آخرون، فلم يكن الرجل سوى المستشار فاروق سلطان، رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، الذي عرفه الشعب جيدا بعد أن أصبح هو والمستشار تامر بجاتو المتحدث باسم اللجنة ضيفين على الإعلام فترة ما قبل إعلان النتيجة، بعد الطعون التي قدمها ممثل الثورة المضادة أحمد شفيق.. 

وبعد مقدمة لم ينقصها الإثارة أطلق سلطان كلمته الأشهر والتي ما زالت ترن في آذان سامعيها (ويكون الفائز بمنصب رئيس الجمهورية هو الدكتور محمد محمد مرسي عيسى العياط  رئيسا لمصر).

قبيل نطق رئيس اللجنة العليا للانتخابات بالنتيجة كان المحتشدون في ميادين الثورة في المحافظات عامة وميدان التحرير أيقونة الثورة يهتفون .. يا رب .. يا رب، وما إن نطق سلطان بالنتيجة وأعلن فوز ممثل الثورة انطلقت حناجر المحتشدين في ميدان التحرير، وميادين الثورة الأخرى في المحافظات بالتكبير والتهليل والفرحة، وسجد المئات شكرا، واحتضن بعضهم بعضا ووزع آخرون الحلوى، فقد كان مرسي هو الأمل لاستكمال ثورة الشعب الذي قدم الشهداء من أجل العيش والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

لم يثنِ فوز ممثل الثورة الرئيس محمد مرسي، الثورة المضادة من أن تكمل مشوارها من أجل تحقيق هدفها في قتل حلم هذا الشعب في التحرر من استعباد طبقة العسكر ورجال أعمالهم ومنظومة وكلاء الاحتلال في المنطقة الذين يحكمون الشعوب بتجويعهم وإعطاء أسيادهم في الغرب، فبدأت المكائد منذ اليوم الأول لإعلان النتائج، فالكل كان يعرف أن فخا كبيرا نصب للرجل بدا واضحا مع إعلان انتخابات الإعادة وتخلي بعض القوى الثورية عن مرشح الثورة الوحيد، وتشرذم الشارع مصدر قوة الرئيس الجديد وممثل الثورة، وبدأ الإعلام يلعب لعبته، ولم يكن الكل راض عن أداء الرئيس في أيامه الأولى وحتى فيما بعد بنسب متفاوتة، لكن المقربين من المشهد كانوا يعرفون الأسباب، مع ذلك لم يكن ليستطع الرجل حلها، لأن حلها يحتاج وقتا طويلا، ولعلم قادة الثورة المضادة والدول التي تحركهم بذلك لم يعطوه الفرصة، فأداؤه كان يتحسن وهو ما شكل خطرا على مشروعهم.

لكن أسطورة محمد مرسي الرئيس بدأت فعليا بعد انقلاب الثالث من يوليو، فقبل إعلان بيان الانقلاب وبعد خطف الرجل وطاقم مكتبه المقربين تمت مساومته على أن يتنازل ويضمنون له الآمان والحياة الكريمة في إحدى الدول الراعية للانقلاب، فأعاد عليهم كلمته الشهير قبل أيام من الانقلاب في خطبته الأخيرة : (الشرعية ثمنها حياتي).

لم يكن الرجل طالب سلطة ولقد كرر أكثر من مرة لمستشاريه ونوابه والمقربين منه أنه لا يريد البقاء، لكنه يريد أن يسلم الدولة لمؤسسات منتخبة وفاء للملايين التي انتخبته والملايين الأخرى التي غرر بها لكنها كانت لا تزال على عهد الثورة.
صمود الرئيس الشهيد محمد مرسي الأسطوري طوال ست سنوات في سجنه الانفرادي ومنعه من الحديث، وهي طريقة مجربة لإيصال المعتقل إلى الجنون، كان تثبيتا من الله، عزله عن العالم ومنعه من الدواء لقتله بدم بارد حتى فقد الرؤية بعينه اليسرى بسبب مرض السكري، ومحاولات قتله بدس السم في طعامه وهو ما عبر عنه للمحكمة صراحة في إحدى الجلسات، حتى صار مرسي أيقونة من أيقونات البطولة والنضال والثبات لا في مصر وحدها بل في العالم أجمع، وكان مصدر رعب لقائد الانقلاب حتى وهو في محبسه مكبل.

مرت الذكرى الأولى على استشهاد الرئيس محمد مرسي، وأقيمت له مجالس التأبين وكتب في هذا اليوم الكثير من الكتاب والمثقفين المصريين والعرب وحتى الأجانب المعنيين بالقيم، والمدافعين عن المبادئ والمنحازين لخيار الشعوب والمناصرين لإرادتهم في الحرية، وبالغ البعض في الاحتفال بهذا اليوم والتذكير بما كان وما لو كان ما كان ما كان، ووضع البعض سيناريوهات في قضايا وتساءلوا لو أن الرئيس مازال يحكم، هل صارت الأوضاع إلى ما ذهبت إليه؟

الوفاء من شيم النبلاء وأصحاب المبادئ، لكن خوفي مما رأيت أن تنقلب القصة إلى أسطورة وبكائية ومظلومية، نجتمع كل عام لنروي مآثر الرجل ويحكي كل من خالط الرجل وعايشه قصته معه، وزايد البعض على البعض ويروى عن الرجل ما لم يحدث، يعلي البعض على الآخر النحيب ويزيد البكاء ليظهر إخلاصه، وتعالوا نطرح سؤالا على شاكلة لو كان الرئيس يحكم في أزمة سد النهضة أو تيران وصنافير وغيرها، ماذا لو كان الرئيس الذي قال ثمن الشرعية حياتي خارج السجن؟

يا سادة لقد مات في مذبحة الحرس الجمهوري المئات ثم مذبحة المنصة المئات ثم رابعة العدوية الآلاف والآلاف بعدها في رمسيس والقائد إبراهيم والمنصورة والسويس والعريش والكثير الكثير من المحافظات التي انتفضت، كما مات الرئيس من أجل الثورة وتحقيق أهدافها.. يا سادة رابعة واستشهاد الرئيس ليست لطمية وإنما أحداث نستمد منها العزيمة.. ثوروا تصحوا.

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس