سعيد الحاج - عربي 21

تتصدر أزمة شرق المتوسط مؤخراً أجندة الأحداث العالمية، وتعدُّ من أكثرها تعقيداً. فقد سخّنت الثرواتُ المحتملة في المنطقة توتراً كامناً له أبعاده التاريخية والقومية والجيوسياسية، وصولاً لنقاش احتمالات الصدام العسكري بين الجارتين تركيا واليونان.

حتى وإن كانت فرصها ضعيفة، فإن مجرد احتمال حصول مواجهة عسكرية بين عضوين في حلف شمال الأطلسي وبالتالي حليفين للولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك الارتدادات المحتملة على وحدة الحلف وتماسكه وقوته، يدفع للتساؤل حول الموقف الأمريكي من الأزمة.

بيد أنه بالنظر لموقف الإدارة الأمريكية من الأزمة وتصريحاتها بخصوصها حتى اللحظة، يمكن القول في العموم إنها الغائب الحاضر فيها، حيث غاب الحديث عن وساطة أمريكية بين حليفيها، كما أن متابعة أجندة سياستها الخارجية تشير إلى أن التوتر لا يحظى بأولوية واضحة لديها.

حرصت واشنطن في بدايات الأزمة على البقاء على الحياد وإظهار ذلك بمشاركة بَحْريتها في مناورات عسكرية مع كل من اليونان وتركيا، وغياب أي تصريحات منحازة لأي منهما رغم تأكيدها على ضرورة حل المشكلة بالحوار والدبلوماسية. إلا أن الأيام القليلة الأخيرة حملت متغيرين مهمين خدشا هذه الصورة الحيادية التي حرصت عليها واشنطن.

ففي مطلع أيلول/ سبتمبر الجاري، قرر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو وقف حظر تصدير السلاح لقبرص اليونانية، المفروض منذ 1987 لدعم الاستقرار ومساعي الحل السلمي في الجزيرة القبرصية. رفضت واشنطن الربط بين القرار وبين أزمة شرق المتوسط، حيث ردّته إلى قرار سابق للكونغرس وأكدت أنها تهدف منه احتواء النفوذ الروسي في الجزيرة القبرصية، فضلاً عن تأكيدها على أن القرار مؤقت ومشروط ولا يشمل أسلحة قاتلة أو فتاكة.

ومع ذلك، كانت ردة الفعل التركية حادة، إذ رأت في القرار خروجاً عن سياسة الولايات المتحدة المشجعة للحل في قبرص، ودعماً ضمنياً لقبرص اليونانية، بما قد يؤدي لزعزعة الاستقرار في المنطقة، مهددة باللجوء لإجراءات مماثلة مع قبرص التركية.

وأما التطور الثاني فهو زيارة بومبيو لقبرص اليونانية قبل يومين وما تخللتها من تصريحات. فقد أعرب عن قلق بلاده بشأن تحركات تركيا في شرق المتوسط والتي وصفها بأنها "تحركات تثير التوتر"، ما يعني أنه يحمّل أنقرة مسؤولية التوتر بطريقة غير مباشرة.

مرة أخرى، كانت الزيارة الأمريكية خطوة باتجاه روسيا وخاصة فقط بقبرص، ولذلك فقد أتت بعد أيام قليلة فقط من زيارة لافروف للجزيرة، لكنها استفزت تركيا، إذ لا يمكن فصل القضية القبرصية عن التوتر مع اليونان فهي أحد أكبر الملفات الخلافية بينهما، فضلاً عن أن قبرص اليونانية ركن أساسي في النزاع حول الحدود البحرية. ولذلك فقد انزعجت أنقرة من توقيع الولايات المتحدة مع الأّخيرة مذكرة تفاهم لإنشاء مركز تدريب يسمى "مركز قبرص للأراضي والبحار وأمن الموانئ". الناطق باسم الخارجية التركية حامي أكصوي عدَّ المذكرة انحيازاً أمريكياً لقبرص اليونانية، داعياً إياها "للعودة إلى السياسة الحيادية التي انتهجتها تقيليدياً في الجزيرة القبرصية، والمساهمة في جهود حل المسألة القبرصية".

ثمة من يرى بأن الموقف السلبي للولايات المتحدة من أزمة شرق المتوسط )لم يعلن بومبيو مثلاً استعداد بلاده للتوسط حتى( سببه الانتخابات الرئاسية القريبة، والتي تكبّل عادة الإدارة في ملفات السياسة الخارجية. إلا أن عدداً من الشواهد تؤكد أنها ليست السبب الوحيد ولا حتى الأهم، ذلك أن سعي ترمب الحثيث مؤخراً لإبرام "اتفاقيات سلام" بين الكيان الصهيوني وعدد من الدول العربية، وكذلك جهوده مع كوسوفو وصربيا، بل والتنافس مع روسيا في قبرص، كلها مؤشرات تقول إن هناك أسباباً أخرى.

يبدو أولاً أن الموقف الأمريكي مدفوع بتقدير للموقف يستبعد الصدام العسكري حالياً، ولذلك لا تشعر واشنطن بأنها في عجلة من أمرها أو أن الأزمة أولوية طارئة لها الآن. لكن الأهم أنها ترى فيها فرصة للاستثمار والضغط في كل الاتجاهات، لا سيما على تركيا. فالملفات الخلافية بين الجانبين كثيرة ومتشابكة، كما أن النفوذ الروسي الذي تحاول واشنطن أن تحتويه ينطبق على تركيا أكثر مما ينطبق على قبرص، وهو في رأينا مما يفسّر التصريحات الأمريكية المنحازة نسبياً للطرف اليوناني/ القبرصي، وكذلك ردة الفعل التركية الرافضة لها.

ولعل الأهم من كل ما سبق هو تلقي اليونان للموقف الأمريكي، ذلك أن الأخيرة رأت في توقيت الزيارة وما سبقها ورافقها ولحقها من تصريحات وقرارات دعماً ضمنياً لها، وهو ما زاد في تعنتها فيما يبدو إزاء مبادرات الحوار والوساطة، على الأقل من وجهة نظر أنقرة. وهو كذلك ما ينطبق على قبرص اليونانية التي رحب رئيس وزرائها أناستاديادس بما أسماه "الموقف الحازم للولايات المتحدة بشأن إدانة عمليات التنقيب التركية غير القانونية داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة القبرصية".

في المحصلة، ورغم النفي الأمريكي والحديث عن الحياد، إلا أن الخطوات الأمريكية المتعاقبة منحت بتوقيتها ورمزيتها دعماً ضمنياً للطرف الآخر، ما حدا بتركيا - ضمن أسباب أخرى - إلى تخفيف حدة تصريحاتها، وكذلك إعادة سفينة "عروج رئيس" للشاطئ بشكل مؤقت وفق المصادر التركية. تبدو تركيا حريصة على موقف أكثر اعتدالاً وحياداً من واشنطن، أو على الأقل عدم تحولها لعامل ضاغط عليها، كما أن ذلك يساهم بالتأكيد في بناء أرضية أكثر مناسبة للحوار.

ذلك أن أنقرة تعاطت إيجاباً مع الوساطة الألمانية، لكنها ترى في مبادرات حلف شمال الأطلسي مصلحة أكبر لها، فالأخير على مسافة واحدة من الجانبين - أقله نظرياً - بينما الاتحاد الأوروبي منحاز لليونان حكماً وبُنيةً وسياسةً. وهذا من العوامل التي ساهمت في إنجاح اللقاءات الفنية التي جرت بين الجانبين تحت رعاية الناتو، بينما لم تنجح الوساطة الألمانية حتى اللحظة في إجلاسهما على طاولة الحوار.

أخيراً، يبدو أن الموقف الأمريكي مرشح للاستمرار على ذات المنوال حتى ما بعد الانتخابات الرئاسية، في ظل عدم تفاقم الأحداث وانزلاقها نحو صدام عسكري. وهو ما يعني أن اسم الرئيس المقبل سيكون مؤثراً في قرار التدخل من عدمه أولاً وشكل هذا التدخل ومدى حياديته ثانياً. ولعله من نافلة القول أن أنقرة تفضّل من هذه الزاوية إعادة انتخاب ترمب، إذ أن تجربتها مع الديمقراطيين ليست مشجعة جداً، فضلاً عن التصريحات الحادة التي كان أطلقها بايدن قبل أشهر ضد أردوغان، وهو المعروف بقربه من اللوبي اليوناني وبمواقفه المنحازة لأثينا منذ عقود.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس