محمد زاهد جول - خاص ترك برس

بتاريخ 30 آب/ أغسطس 1922 استطاع الشعب التركي الانتصار على الاحتلال اليوناني ودول الحلفاء للأراضي التركية وإعلان الاستقلال بعد الانتصار عليه، وإعلان استقلال تركيا ووحدة أراضيها وإقامتها للنظام الجمهوري تمثل حصيلة ذلك الانتصار، حيث خاض الشعب التركي حروب التحرير والاستقلال، بعد أن احتل اليونان ودول الحلفاء معظم أجزائها، وحققت نصرها المؤزر في هذه الحرب التي بدأها الشعب التركي بتاريخ 26 آب/ أغسطس، فسيطروا على جميع المواقع القتالية، والخطوط الدفاعية اليونانية التي غزت أراضي الدولة العثمانية في ذلك التاريخ، واستطاعوا تحرير مدينة "أفيون كارا حصار".

ولذلك فإن الحفاظ على الانتصار يعني الحفاظ على الاستقلال أولًا، والحفاظ على وحدة الأراضي التركية ثانيًا، والحفاظ على النظام الجمهوري ثالثًا، وأي خسارة في أحد هذه الأركان الثلاثة يعني هزيمة للشعب التركي مهما كانت الجهة التي تسعى لتحقيقها.

لا شك أن هناك من سيقول كيف يكون الاحتفال بسقوط الدولة العثمانية انتصارًا؟ وكيف يمكن اعتبار نظام الجمهورية انتصارا بعد أن تم إسقاط نظام الخلافة الإسلامي؟ أقدم هذه الأسئلة حتى لا يفترض القارىء العربي أن هناك هروبا من بحث القضايا بصورة واعية ومدركة للماضي والحاضر.

فدول الحلفاء بريطانيا وفرنسا وروسيا واليونان انتصرت في الحرب العالمية الأولى على دول المحور ألمانيا وإيطاليا والدولة العثمانية ومن معها، ولذلك كان طبيعيا للدول المنتصرة أن تحتل أراضي الدولة المهزومة في الحرب، فهذه نتيجة عسكرية للحرب، وبذلك دخلت جيوش الحلفاء أراضي الدولة العثمانية، وفرضت عليها الوصاية الاستعمارية في كل بقاعها التركية والعربية وغيرها، فعمل الأتراك على حماية ما يمكن حمايته، فمنعت سقوط اسطنبول بأيدي الحفاء بمساندة من العرب وغيرهم من المسلمين الذين دافعوا عن مدينة القسطنطينية اسطنبول، وعملت المقاومة الشعبية التركية على تحرير باقي الأراضي التركية حتى الانتصار وتوحيدها واستقلالها من أيدي الاحتلال الخارجي والأجنبي.

لقد خسرت الدولة العثمانية وحلفاؤها معركتهم في الحرب العالمية الأولى، ولم تكن الظروف السياسية والعسكرية للدولة العثمانية تمكنها من الاستمرار، فقد انسلخ عنها العرب بل شنوا عليها ثورة عربية كبرى، وقد كان العرب يومئذن يشكلون قرابة 50% من عدد سكان الدولة العثمانية، فقد كان عدد سكان الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى أربعة عشر (14) مليوناً، كان عدد العرب منهم نحو ستة (6) ملايين، والملايين الباقية كانت تمثل الأتراك والكرد والشركس والأرمن وكافة القوميات الأخرى، لذلك كان من مسؤوليات الأتراك أن يحافظوا على أراضيهم موحدة وإقامة نظام سياسي عصري عليها، واستقلالها عن دولة الاحتلال، لذلك يعتبر الأتراك أنفسهم قد انتصروا في حرب الاستقلال وإعلان الجمهورية، لأنهم انتصروا على الاحتلال البريطاني، وإن خسروا الحرب العالمية الأولى في ظل الدولة العثمانية وحكومتها حكومة حزب الاتحاد والترقي، وفي المقابل انتصر العرب في الثورة العربية الكبرى وفي الحرب العالمية الأولى على الدولة العثمانية بحكم أنهم كانوا حلفاء الانجليز والفرنسيين والروس، الذين انتصروا في الحرب، ولكن نتائج الحرب لم تكن انتصاراً للعرب لأن اتفاقية الحلفاء الفرنسيين والبريطانيين قد قسمت أراضيهم إلى دول عديدة، وشتتت جمعهم إلى أقطار ضعيفة، في اتفاقية سايكس بيكو التي كشف سرها الروس، فتحول انتصار الحلفاء في حق العرب إلى هزيمة سياسية وتجزءة قومية، حتى اضطروا بعد عقود من الهزيمة إلى تأسيس جامعة لهم باسم جامعة الدول العربية لا حول لها ولا قوة.

ولذلك فإن الشعب التركي عندما يشاهد التجزءة والضعف العربي يتأكد لديه أن الشعب التركي الذي طرد المحتلين وحافظ على وحدة الأراضي التركية وأقام جمهوريته عام 1923 قد انتصر فعلاً، وإلا لكان حال الشعب التركي مثل حال الشعب العربي دولا مجزأة وأقطارا مشتتة، لم تنفعهم مشاريع وحدة قومية ناصرية ولا بعثية يسارية ولا جامعة دول عربية.

أما طبيعة النظام إن كان خلافة أو جمهورية فإن الغاية من النظام هي تحقيق مقاصد الشرع والعقل معاً، ولذلك كافح الشعب التركي طوال عقود من عمر الجمهورية التركية حتى يصل إلى نظام جمهوري عادل يحفظ حقوق كافة المواطنين الأتراك، واستطاع حزب العدالة والتنمية إقامة نظام ديمقراطي محافظ، يحترم هوية الشعب وحضارته، ويصحح الكثير من المظالم والأخطاء التي فرضها النظام السياسي السابق باسم العلمانية المتشددة، او باسم التمسك بالتبعية للغرب أو للشرق، فالشعب التركي ومن خلال حزب العدالة والتنمية يرى نفسه وهو في النظام الجمهوري امتداداً للدولة السلجوقية التي قامت عام 1071م، وامتدادا للدولة العثمانية التي قامت بحدود عام 1300م، وأن النظام الجمهوري ليس انقطاعاً عنها ولا قطيعة معهاً، طالما أن قيم الشعب التركي هي السائدة، وطالما أن إرادته السياسية هي الحاكمة، وطالما أن جيشه وكل أجهزته الأمنية تدافع عن أمنه القومي الداخلي والخارجي بقرار منها، وبقيادة سياسية وعسكرية موحدة ومنظمة دستورياً.

وفي ذكرى الانتصار والاستقلال ينظر الشعب التركي إلى كل من يسعى إلى تجزءة الدولة التركية أو التقليل من درجة استقلالها أو الإضرار بنظامها الجمهوري على أنه عدو للشعب التركي، وعدو لكل ما ينعم به من وحدة وقوة ومنعة واستقلال وانتصار، فيوم الانتصار 30 آب/ أغسطس من كل عام هو يوم كشف حساب للأصدقاء والأعداء معاً، فمن يعمل من أجل الوحدة الجغرافية للأراضي التركية، ولا يعمل ولا يدعو للانفصال هو من الشعب التركي وصديق له، ومن يعمل لإضعاف تركيا أو تقسيم أراضيها أو زعزعة استقرارها او إضعاف استقلالها فهو عدو للشعب التركي، وليس عدوا لرئيس الجمهورية ولا رئيس الحكومة فقط.

ولذلك فإن ذكرى الانتصار والاستقلال والجمهورية هي ذكرى التأكيد على أن الشعب التركي سيواصل انتصاره على أعدائه، سواء كانوا تنظيما خارجيا يعيش في الجبال والكهوف مثل مقاتلي حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، أو تنظيما سياسيا يخفي هويته السياسية ويظهر صورته الخيرية، مثل الكيان الموازي الذي يمثل حركة فتح الله جولن، فهذه التنظيمات هي تنظيمات معادية للشعب التركي لأنها معادية لقيم الانتصار التي يحافظ عليها الشعب التركي، ولذلك ليس غريباً أن يتحالف التنظيمين الإرهابيين حزب العمال الكردستاني والكيان الموازي في أعمال إرهابية مشتركة ضد الدولة التركية، بهدف زعزعة استقرارها، وكل تنظيم منهما يغنّي على ليلاه، ويسعى لتحقيق أهدافه ولو كان على حساب مكتسبات الشعب التركي وامنه.

إن الشعب التركي في يوم الانتصار قبل ثلاثة وتسعون عاماً أفرز عيداً للشعب التركي يحتفل فيه كل عام في الثلاثين من شهر آب/ اغسطس، ففي الـ 30 من آب استطاع الأتراك إلحاق الهزيمة القاسية والموجعة بالجيش اليوناني في معركة "دملوبينار"، حيث سقط نصف جنود الجيش اليوناني بين قتيل وجريح وأسير، كما سقطت معظم المعدات القتالية التابعة للجيش اليوناني بيد الجيش التركي .

وعندما تأتي هذه الذكرى في كل عام لا بد أن تفرز شعباً يتذكر التضحيات ويحافظ عليها، فالذكرى تحمل مسؤولية الحفاظ على تضحية الآباء والأجداد أولاً، وتحمل مسؤولية محاربة كل من يعمل لإضاعة هذا الانتصار، وكما قال رئيس الجمهورية أردوغان في هذه الذكرى : "إن القوات المعادية كانت تهدف للقضاء على الشعب التركي في ذلك الوقت، إلا أن عيد النصر أفرز ولادة الشعب من جديد، حين عاد من حافة الهاوية ورسم طريقه في الحياة مجددا"، وقال: "إن عيد النصر أتاح إقامة جمهوريتنا التركية الحالية والأخيرة. حيث شهد التاريخ في عام 1071 نصر أجدادنا في معركة "مالازغيرت"، وقامت على إثرها إمبراطورية السلاجقة على أرض الأناضول، وفي زمن الدولة العثمانية، وبالرغم من امتداد رقعة اراضيها إلى داخل القارة الأوروبية من جهة وقلب القارة الأفريقية من جهة أخرى، إلا بقاع منطقتي الأناضول وروميلي بقيتا بمثابة القلب النابض لهذه الدولة".

وبهده المناسبة قال أردوغان: "إن الشعب التركي نجح في الحفاظ على القسم الأهم من هذه الأراضي، بنتيجة عيد النصر، الذي كان اللبنة الأساسية لإقامة جمهوريتنا التركية بحدودها الحالية"، والنتيجة المستخلصة من الذكرى وكما قال أردوغان: "أن كفاح الشعب التركي مازال متواصلا، حيث شهد تاريخ الجمهورية التركية محاولات مستمرة لإضعاف الرابطة بين الدولة والشعب التركيين، إلا أنها فشلت على الدوام بفضل التضحيات التي قدمها الشعب التركي في سبيل الحفاظ على الدولة".

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس