د. أحمد داود أوغلو - الجزيرة

بشَّر انهيار نظام الحرب الباردةبنشوء نظامٍ عالميٍ جديد، لكنَّ هذا لم يحدث. فبدلاً من ذلك، واجه العالم أزماتٍ ضخمة، ونقاط تحول، وأحداثا فارقة، دون تعلُّم الدروس الصحيحة منها، وهو ما نتجت عنه أساليب وطرق رجعية معتمدة على التخمين، أدت إلى تفاقُم المشكلات.

وأدى تجاهل النظام العالمي للعديد من القضايا والمشكلات والأزمات إلى تراكمها، وهي قضايا بُنِيَت جميعاً على بقايا أزمات سابقة لم تُحَل  بعدُ، أو لم تُواجَه بحلول جذرية.

ولذلك، علينا أن نحذر -ونحن نحاول تحليل المشكلات الحالية- من استخدام الحلول التي تعتمد على التخمين، أو الحلول القصيرة المدى، أو النظر إلى الأمور من منطلق مصلحتنا الفردية فقط.

وللأسف، رغم أنَّ ردود الأفعال تجاه الانتخابات الحالية في الغرب -التي منحت الجماعات الشعبوية والكارهة للأجانب والجماعات "القومية  الجديدة" نفوذاً أكبر- قد جعلت الطبقة الثقافية والسياسية تبدأ في مراجعة نفسها، وأقلقت مواطنين في الغرب وفي أماكن أخرى؛ فإنَّ القليلين فقط هم من أظهروا استعدادهم للوصول إلى السبب الجذري وراء تلك النزعة السائدة، وذلك بوضعها في سياقٍ تاريخي.

فالمستجدات الأخيرة لم تكن نتيجة لتراكماتٍ سابقة فقط. وكما اقترحتُ في أماكن أخرى، يمكننا أن نستجيب الاستجابة الفضلى لدورات التغيُّر الحالية إذا فهمنا الزلازل الحالية التي تُشكِّل عالمنا.

1- زلازل في السياسة العالمية
أول زلزال هز النظام العالمي كان زلزالاً جيوساسياً جاء بعد الحرب الباردة. في تلك الفترة أُعيدَ رسم خريطة أوراسيا، وانتهت جغرافيا الحرب الباردة السياسية، وانبثقت دولٌ جديدة.

ومع انهيار الكتلة الشيوعية ذات البناء السياسي الاستبدادي؛ تصدرت المشهد -في وسط أوروبا وشرقها- موجة جديدة لإرساء الديمقراطية، بالإضافة إلى مبادراتٍ إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي.

وبعد أكثر من عقدٍ شهد النظام العالمي زلزالاً أمنياً، وهو أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001. وبعد أن كانت قيمٌ كالحرية والديمقراطية في قلب الزلزال الجيوسياسي، تمحور الإطار المفاهيمي الأساسي بعد 11 سبتمبر/أيلول حول قضية الأمن، خالقاً بذلك مناخاً من العداء والقلق وانعدام الثقة على المستوى العالمي.

وكان ثالث هذه الزلازل الكبرى -الذي كان أثره ملموساً بدرجةٍ أكبر- هو الزلزال الذي ضرب الأنظمة الاقتصادية، أولاً في الولايات المتحدة عام 2008، ثم أزمة اليورو عام 20100، والأزمة الاقتصادية العالمية.

وانبثق الزلزال الكبير الرابع مع ثورات العالم العربي نهاية عام 2010 وما تلاه، وكان ذا طبيعةٍ اقتصادية وسياسية اجتماعية. وحتى يفي ذلك الزلزال بوعده الأساسي بمنح الكرامة والحرية والديمقراطية والتقدم الاقتصادي للعرب، سيستمر في هز المنطقة كلها حتى جذورها.

استُخدمت السياسات المبنية على التخمين والسياسات القصيرة المدى بشكلٍ أساسي في التعامل مع تلك الزلازل؛ ولذا ظلت دون حل، ومهدت الطريق لما يحدث الآن: زلزال نظامي يتمثل في موجةٍ عارمة من التطرف، تتراوح بين العمليات الإرهابية التي تنفذها جماعاتٌ مثل داعش، والطفرة الشعبوية في الانتخابات الأخيرة بالولايات المتحدة وأوروبا.

وكان من أخطر تبعات تلك الزلازل صعودُ الأنظمة الاستبدادية الشعبوية، والفردانية، والأحادية، والسعي الأناني وراء مصالح قومية محددة على حساب القيم والصالح العام.

وعلى صعيدٍ أكثر شخصية، كانت تركيا في قلب كل تلك الزلازل. وبصفتي أكاديمياً قضى جزءاً كبيراً من حياته الأكاديمية والفكرية في البحث  عن جذور تلك الزلازل، وبحُكم عملي لاحقاً وزيراً للخارجية ورئيساً لوزراء تركيا، وهو عملٌ اضطررتُ فيه لإقرار بعض السياسات استجابةً لتلك الأحداث الجسام؛ فقد أدركتُ وجود نمطٍ من الاستجابات القصيرة المدى، والقومية الرجعية، والإقليمية، والعالمية، فاشل في التعامل مع أسئلةٍ أشمل، تخص الحوكمة العالمية، والنظام الشامل.

2- تحديات "النظام" الحالي وقصوره
استُخدِمَت بكثرة مفاهيم مثل "ما بعد الحقيقة"، و"ما بعد النظام"، و"ما بعد المعلومات"، وغيرها لوصف ما يمر به العالم. فمثلاً، يُستَخدَم مصطلح "ما بعد الحقيقة" لتفسير السياق، أي العوامل التي مهدت الطريق لما نختبره الآن، ويُستخدم مصطلح "ما بعد النظام" لوصف النظام العالمي وحالته.

وإذا لم يُنظَر إلى تلك المفاهيم ببعض التشكك والتحفظ، فإنَّها تؤدي إلى انعدام الدقة والانضباط الفكري أو التحليلي، وهي بذلك تخدم غرضاً غير مقصود، وهو إعفاء الأسباب والعوامل المختلفة من مسؤوليتها عما يحدث.

يجب الجمع بين التفكير المتجدد -الذي لا يقع في أسر المفاهيم الشائعة الجديدة- وفهم أنَّ الاستخدام التقليدي لمفاهيم كانت تفسيرية من قبل (مثل اليمين واليسار) له قدرة محدودة للغاية على تفسير الظاهرة الحالية.

يتلقى "النظام" العالمي الحالي دعمه الأساسي من القوة الأميركية، ومن المُفترض أنه يستند إلى قيمٍ مثل الديمقراطية، وحكم القانون، والأسواق الحرة، وعلى منظماتٍ مثل الأمم المتحدة، ومجموعة العشرين، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية. ويواجه هذا "النظام" تحدياتٍ قاسية:

فأولاً، يبدو أنَّ إدارة دونالد ترمب -بإعلانها سياسة "أميركا أولاً"- تعطي ظهرها للنظام، وتلك هي أكثر الأزمات صلةً بما يحدث اليوم. ويمكن  القول بأنَّ تلك الأزمة يُمكن تخفيفها إما بالتزام المؤسسة الأميركية بالنظام العالمي، أو بازدياد المسؤولية الجمعية عنه.

وثانياً، المنظومة القيمية المُعلنة للنظام السائد طُبِّقَت تطبيقاً انتقائياً -أو لم تُطبق على الإطلاق- في سياقاتٍ كثيرة. مثلاً، في أثناء الزلزال الرابع المتمثل في ثورات العالم العربي، تبنَّى ممثلون للسياسة العالمية سياساتٍ تتسم بكونها قصيرة المدى وانهزامية، بدلاً من دعم قيم النظام المُعلَنة، مثل الديمقراطية.

وقد ترك هذا الناس في موقفٍ لا يُحسدون عليه، وهو الاختيار ما بين الإرهاب والدول البوليسية، وهو الأمر الذي أضعف بدوره شرعية النظام العالمي لدى قطاعاتٍ كبيرة من الناس حول العالم.

ثالثاً، مؤسسات النظام العالمي السائد في حاجة ماسة للإصلاح والتحديث. خذ مثلاً الأمم المتحدة، فهي مؤسسة تفتقر كثيراً إلى النجاحات، وبالتالي إلى المصداقية.

علاوةً على ذلك، فآليات الحوكمة واتخاذ القرار في تلك المؤسسات ليست شاملة لجميع الأطراف، لذا فهي تتصرف وكأنها نوادٍ حصرية، صُمِّمَت أساساً لخدمة مصالح الأقوياء على حساب الضعفاء. وما دام الناس يرون المؤسسات العالمية على تلك الصورة، ستظل شرعيتها دائماً محل شك.

وقد أثارت أحداث مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب ترمب الجدال مؤخراً حول مستقبل "النظام" العالمي. لكنَّ طبيعة الحاضر  المشتعلة يجب ألّا تُشكِّل استجاباتنا لتلك الأزمة العميقة.

فبعض المفاهيم والقضايا و"الحقائق" يجب أن تخضع لتمحيصٍ جاد. وأفكار التغيير والنظام -بالإضافة إلى عوامل التغيير والنظام- يجب أن تُدرَس بدقة قبل أن نُقدِّم أي استجابةٍ مستدامة وشاملة وعادلة للأزمة النظامية الحالية.

3- ضرورة التغيير وأشكال النظام
نظراً للزلزال النظامي الحالي؛ يجب أن تبدأ الفئات الثقافية والسياسية بإدراك أنَّ التغيير ضروري وحتمي.

وبمجرد التسليم بهذا، ستكون الأسئلة التالية حول ما يجب تغييره، وكيفية تغييره. وأحد وجوه القصور الفارقة في "النظام" العالمي الحالي هو اعتماده الزائد على التكنوقراطية والنُّخَب. فهي لا تمثل المجتمعات، وعاجزة ديمقراطياً في جوهرها، مما أدى إلى تراجع إحساس الشعوب بملكيتها لذلك النظام بشكلٍ متزايد.

وهو ما خلق بدوره حلقةً مُفرغة: كلما ضعف أساس النظام الحالي الاجتماعي، زاد اعتماده على التكنوقراطية، وزاد انصراف الناس عن النظام. ويرى جزءٌ كبير من مجتمعات العالم هذا النظام بصفته سلطة وصائية مفروضة على العالم بأكمله.

وتمنح تلك الرؤية فرصةً للمستبدين الشعبويين؛ لذلك يحتاج النزاع القائم بين طبيعة النظام التكنوقراطية والحاجة المُلِحّة لجعله أكثر تمثيلاً للناس، إلى المعالجة فوراً.

بعد تسوية هذا الأمر، سيكون على من يدعون إلى نسخةٍ مُعدَّلة من "النظام" الحالي أن يواجهوا مطالب التغيير الأكثر رجعية واستبعاداً التي يقدمها الشعبويون، وذلك بتقديم نموذج تغيير أكثر تقدمية وشمولية.

ويعني هذا أنَّ أي نظامٍ عالمي غير مؤسس على قواعد وقيم، ولا يعكس مبدئياً قطاعاً كبيراً من قيم البشرية ومصالحها، سيكون محكوماً عليه بالفشل. والكلام أسهل من الفعل بالطبع، لكنَّ هناك مقاربتين أساسيين يمكن تبنِّيهما:

المقاربة الأولى هي الاتفاق على مجموعة مبادئ وقيم، وتأسيس النظام عليها. بهذه الطريقة سيكون أساس النظام القيمي واضحاً للجميع. ويجب أن نمتلك مجموعة قواعد، ودليلاً إرشادياً في متناول الجميع.

علاوةً على ذلك، تقدم هذه المقاربة المعايير والمقاييس التي يمكن بها الحكم على أداء النظام، واكتشاف أي عيوبٍ به. وكون النظام شاملاً ومؤسَّساً على القيم سيمنحه شرعيةً كبرى، وقاعدة اجتماعية أوسع حول العالم.

المقاربة الثانية هي محاولة بناء نظام مؤسَّس على التخمين والبراغماتية. وهذا الشكل من النظام سيستند إلى أرضيةٍ مرتعشة، وسيخضع منذ يومه الأول للكثير من الشكوك. وسيواجه دائرة أزمات ناتجة عن منافسةٍ محصلتها النهائية هي الصفر.

لذلك، يجب أن تكون الشمولية المبنية على القواعد، والعدالة القائمة على المبادئ، جزءاً لا يتجزأ من أي نظامٍ جديد. ويجب على النظام الحالي على الأقل أن يسعى إلى تحديث نفسه مع وضع تلك العوامل في الاعتبار. ورغم أنَّ النظام الحالي نظرياً يعكس المنهج الأول، فإن تطبيقه يُظهِر أنَّه أقرب إلى المنهج الثاني.

مَنْ المسؤول عن بناء النظام الجديد أو الحفاظ على النظام الحالي؟ على المستوى القومي، لدينا مرشحان: المؤسسة الرسمية، والشعبويون الذين يقودون الأمواج الجديدة المضادة للنظامية.

المشكلة أنَّ المؤسسة الرسمية لا تمتلك الشرعية الضرورية لبناء نظامٍ جديد، أو لتحديث النظام القديم تحديثاً جذرياً. لكنَّ الشعبويين لا ينوون ولا يعرفون كيفية بناء نظامٍ جديد، أو مراجعة النظام الحالي مراجعةً ملحوظة. والتفاعل والصراع بينهما سيُشكِّل النظام العالمي.

وعلى المستوى العالمي، كان يجب على الأمم المتحدة أن تلعب دور المنصة الأساسية لمناقشة إصلاح النظام أو بناء نظامٍ جديد، لكنَّ سجل إنجازاتها لا يدعو للتفاؤل.

4- الحاجة إلى حكمٍ عالمي أكثر شمولية
على العموم؛ أظهر المد الشعبوي الصاعد والأزمات النظامية أنَّ "النظام" الدولي الحالي في الطريق إلى فقد شرعيته على مستويين: أولاً، النظام الدولي الحالي مرفوض بوصفه مصدراً للظلم وغياب الإنصاف والاستغلال، وهي من أعراض انحلال النخبة العالمية، وعدم اكتراثها بمظالم الناس في المجتمعات بجميع أنحاء العالم، أو انفصالها عنها.

وثانياً، "النظام" الحالي في موضع تساؤل من مجموعاتٍ كبيرة من الدول، ولا سيما القوى الصاعدة، بما فيها تركيا التي ترى -وهي على حق في ذلك- أنَّ النظام الدولي الحالي لا يمثل الدول كلها، ويعكس بشكلٍ حصري تقريباً توقعات وأولويات القوى الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.

وعدم قدرة النظام على استيعاب وحداته وتمثيلها بشكلٍ عادل لا يقلل من شرعيته فحسب، بل يقوض أداءه أيضاً. ويوّلد التأثيرُ المشتركُ لهذين العاملين أزمةَ الشرعية المعاصرة.

وفي هذه المرحلة، فإنَّ السؤال الحاسم هو ما إن كان نزع الشرعية هذا سيؤدي إلى الانحلال الكامل للنظام. وبعبارةٍ أخرى، لم يتضح بعدُ ما إن كانت ذروة هذا الزلزال النظامي ستنتهي بحل النظام الحالي أم بصقله.

ولتجنُّب الانحلال، يتعين القيام بإصلاحاتٍ كبرى لإعادة إرساء الشرعية، وهو السبيل الوحيد أمام النظام الحالي للنجاة من هذا الزلزال النظامي. وما لم يحدث ذلك، فإنَّ الاتجاهات الحالية مثيرة للقلق، وتشبه سياسة القرن التاسع عشر أو فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك، فالأزمة الاقتصادية المستمرة، وتزايد النزعات الانعزالية بين القوى الكبرى، وتصاعد السياسات الشعبوية والنظم الاستبدادية، والتوجهات الأحادية الجانب، وتصور السياسة والتفاعلات الدولية من منظور المعادلة الصفرية، فضلاً عن خصائص أخرى مشابهة تمثل اتجاهاتٍ مخيفة، كل ذلك يمكن عكسه.

والخيارات واضحة؛ فالعالم إما أنه سيتجه مرة أخرى نحو "نظام توازن القوى" المدمِّر للجانبين، أو يسعى جاهداً إلى إقامة هيكل حكم عالمي مُجْزٍ للجميع، وهادف للنفع، وأكثر استيعاباً، يتسم بالإنصاف والإنسانية.

وفي حين تشكل المصالح الضيقة والأحادية المنطوية على الذات الطابع الرئيسي للنظام السابق؛ فإنَّ القيم والقواعد المشتركة، والتعددية ذات المنفعة المتبادلة، ستحدد الملامح العامة للخيار الأخير.

والأمل الذي لم يتحقق بعدُ منذ التسعينيات هو تحقيق مستقبل تشكله الحوكمة العالمية. ويكمن الفرق بين الحوكمة العالمية والنظام الدولي في أنَّ كلمة "الدولي" تفترض ضمناً أنَّ الدول القومية هي وحدات رئيسية فيه، وأنَّ "النظام" يتم تشكيله نتيجة للعلاقات والحوار بين الأمم. بينما الحوكمة العالمية أكثر تفاعلاً وأكثر استنادا إلى الحوار، وأكثر عبوراً للحدود الوطنية.

وبهذا المعنى؛ ليس الحوار بين الدول القومية فحسب، بل بين البشر، مع نظام تفاعلي مترابط هو الذي يخلق نظاماً دولياً. ولذلك، فإنَّ الإنسانية في هذه المرحلة تحتاج إلى حكمٍ عالمي قائم على القيم والقواعد، ومتعدد الأطراف، وتوافقي، يتسم بالعدل واستيعاب الجميع.

عن الكاتب

د. أحمد داود أوغلو

رئيس الوزراء التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس