محمود عثمان - الأناضول

بينما تشهد العلاقات التركية الروسية تطورات لافتة، رغم ما يعتريها من توترات من حين لآخر، تواصل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دفع تركيا نحو روسيا أكثر فأكثر، من خلال الإصرار والاستمرار في دعم الميليشيات الانفصالية الكردية تارة، وبإعلان حرب اقتصادية ضد أنقرة باستهداف عملتها الوطنية، بشكل مباشر ومقصود تارة أخرى.

ورغم التحسن المضطرد في منحى العلاقات بين موسكو وأنقرة، إلا أنه من المبكر لأوانه الحديث عن تحالف استراتيجي أو شراكة استراتيجية بين الطرفين، على غرار العلاقات الأوروبية التركية، أو العلاقات الأمريكية التركية.

قبل الحديث عن مستوى وأبعاد العلاقات التركية الروسية، لا بد من الإشارة إلى أن التحالفات الاستراتيجية بمفهومها التقليدي المعهود في القرن المنصرم، قد أضحت ضرباً من الماضي، خصوصا بعد أن أقدمت إدارة ترامب على قلب الموازين راساً على عقب.

تلك الإدارة أقدمت على الذهاب بعيدا في خطوات من شأنها إلحاق الأذى والضرر بالاقتصاد الأوروبي، من خلال فرض قيود جمركية شديدة الوطأة، مما يعني أن الحلف/ البلوك الاستراتيجي التقليدي الأمريكي الأوروبي أصبح في مهب الريح، وأن مستقبل حلف الناتو بات يلفه الغموض من كل جانب.

الترحيب والدعم الأمريكي لخروج بريطانيا من المنظومة الأوروبية كانت إشارة مبكرة على إدارة الظهر الأمريكية لأوروبا.

والأغرب من ذلك هو الغزل الأمريكي مع الروس، العدو التقليدي لأمريكا. من أجل ماذا ؟!.

بهدف المضي قدما في عملية تفتيت الاتحاد الأوروبي، وإخراجه من كونه منظومة منافسة، وقد جاء الهجوم الاقتصادي على الليرة التركية، موازيا للإجراءات والقيود الأمريكية على أوروبا، وكإحدى خطوات حصار تركيا وأوربا معا، خدمة للهدف نفسه.

الأوساط السياسية في تركيا تتساءل، إذا كان هذا ما يفعله ترامب مع الحلفاء الاستراتيجيين، فماذا بقي للعدو؟!.

الحقيقة التي لم تعد تقبل الجدل، أن الأحجار تحركت من أماكنها، وأضحت المعادلات والتوازنات الكلاسيكية القديمة ضربا من الماضي، لكن المشكلة الأساسية أن لا أحد يملك رؤية عن طبيعة وشكل التوازنات الجديدة، لذلك نرى الجميع يتلمس الطريق تلمساً، كمن يتحسس طريقه في ظلمات ليل مظلم دامس.

**آفاق ومجالات التوافق والخلاف بين موسكو وأنقرة:

أولا: المجال السياسي

رغم التأكيد المستمر لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو على متانة علاقة بلاده بروسيا ووصفها بالاستراتيجية، إلا أن وجهات نظر الطرفين تكاد لا تلتقي حول أية من القضايا الدولية ذات الشأن، ابتداء بموقف البلدين من الأزمة السورية مرورا بقضايا القوقاز، وليس انتهاء بالبلقان.

دخول تركيا على مسار أستانا لم يكن بسبب تطابق الرؤى ووجهات النظر بين أنقرة وموسكو حول طريقة الحل في سوريا، ولا لقناعة أنقرة بأن موسكو لديها مفاتيح الحل، إنما بسبب الانسحاب الأمريكي من الملف السوري، وترك الساحة، ولو مؤقتا، فارغة للروس بشكل شبه كامل، يصولون ويجولون فيها كما يشاؤون.

وهذا يشير بوضوح إلى أن التنسيق والتعاون بين أنقرة وموسكو في الملفات السياسية، نابع من التعامل مع الأمر الواقع، أو أخف الضررين بالنسبة لتركيا، وليس من قبيل تطابق وجهات النظر حول الرؤى والحلول.

ثانيا: المجال العسكري والتصنيع الحربي

أثناء عرضه لموازنة عام 2018 المالية، شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على أنها ستركز بالدعم على أمرين اثنين، الأول: دعم التصنيع الحربي، والثاني: دعم الانتاج التكنولوجي.

وتسعى تركيا للاعتماد على الذات في مجال التصنيع العسكري كخطوة أولى، وقد جنت ثمار ذلك ميدانيا في مجال مكافحة الإرهاب، ثم الدخول في نادي مصدري الأسلحة في الخطوة التالية.

هذان الهدفان الاسترتيجيان لتركيا اصطدما بلوبيات تجارة السلاح العالمية من جهتين، الأولى: حرص لوبيات تجارة الأسلحة على إبقاء تركيا سوقا مستهلكاً، وليس منتجاً، والثانية: الحيلولة دون تحول تركيا إلى مصدر للسلاح منافس لهم.

من أجل ذلك تم عرقلة جميع جهود تركيا بهذا الاتجاه.

مع ارتفاع حدة التوتر مع روسيا عقب اسقاط المقاتلة الروسية، برزت حاجة تركيا لنظام صاروخي دفاعي، لمواجهة الأخطار المحتملة، فتقدمت بطلب لحلف الناتو الذي سرعان ما نصب منظومة صواريخ باتريوت في الأراضي التركية، لكن كلا من ألمانيا وهولندا قامتا بسحب هذه الصواريخ في وقت حرج، كنوع من الضغط السياسي على تركيا.

عندما برزت حاجة تركيا لمنظومة دفاعية صاروخية، طلبت من الأمريكان شراء منظومة باتريوت، بشرط شراء المنظومة مع تقنيتها أي تقنية تصنيعها وإنتاجها، وعندما رفض الطرف الأمريكي هذا الشرط، تحولت أنقرة لشراء المنظومة المعادلة من موسكو، وهنا قامت الدنيا ولم تقعد !.

اغتنم الروس هذه الفرصة، فرصة بيع منظومة متقدمة لدولة في حلف الناتو، فلبوا جميع شروط تركيا، بل زادوا على ذلك بتقديم موعد تسليم المنظومة لعام 2019. 

ثالثا: مجال الطاقة

تسعى تركيا من خلال موقعها الجغرافي وعلاقاتها السياسية لأن تصبح محطة تخزين استراتيجي للطاقة، وخصوصا الغاز الطبيعي، فقامت بخطوات عملاقة بهذا الاتجاه، وشرعت في استثمارات ومشاريع عملاقة، منها ما تم الانتهاء منه ومنها ما هو قيد التنفيذ.

ولعبت المشاريع المشتركة في مجال الطاقة ذات الطابع الاستراتيجي، دورا مهما في تقارب موسكو وأنقرة اقتصاديا وسياسيا.

رابعا: المجال الاقتصادي

بالرغم من ارتفاع حجم التبادل التجاري بين تركيا وروسيا خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري بنسبة 46.2 بالمئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ليصل إلى 11.3 مليار دولار أمريكي، إلا أنه لم يصل إلى مستوى ما كان قبل أزمة المقاتلة الروسية (نوفمبر/تشرين ثان 2015).

فقبل تلك الأزمة، كان حجم التبادل التجاري بين البلدين قد وصل إلى 35 مليار دولار سنوياً، لكنه تراجع بعد ذلك إلى 27 مليار دولار سنوياً.

واضح أن الروس يستخدمون الاقتصاد كورقة مقايضة سياسية، مثل منعهم شركات السياحة الروسية من تنظيم رحلات لتركيا عقب أزمة المقاتلة الروسية، لكن واقع الحال يشير إلى حاجتهم الاقتصادية الماسة لتركيا.

حالة من الفوضى وعدم الاستقرار ناجمة عن حالة الغبش في السياسة الأمريكية داخليا وخارجيا، حيث لا أحد يدري هل سيكمل ترامب مدة رئاسته، أم سيتم خلعه، فقد بدأ الخناق يضيق حول عنقه، تنبئ بأن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت الكثيرة، التي قد تجمع الأضداد، وتفرق الحلفاء. 

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس