د. سمير صالحة - أساس ميديا

قال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي معقِّباً على نتائج أعمال قمّة بغداد: "هدفنا قبل كل شيء مراعاة مصلحة العراق، وهذا لا يعني أن يكون ذلك على حساب أشقّائنا وأصدقائنا من الدول العربية والإقليمية، بل وفق المصالح المشتركة.. العراق يجب أن يعود بنحو يليق باسمه وتاريخه الكبير الذي يمثّل مهد الحضارات".

قمّة بغداد المنعقدة تحت عنوان "التعاون والشراكة" بتاريخ 28 آب المنصرم، بحضور دول الجوار ومصر والسعودية والإمارات وقطر وفرنسا، بالإضافة إلى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة التعاون الإسلامي، أعادت العراق إلى الحضن العربي، وأكسبته زخماً إقليمياً افتقده منذ عقدين. 

القواسم المشتركة، التي وحّدت كلمات الدول التسع المشاركة في المؤتمر، هي أهمّية العراق وموقعه ودوره في المنطقة، وضرورة الوقوف إلى جانبه في معركته مع الإرهاب، وإخراجه من أزماته الداخلية، ومساعدته على إعادة بناء مرافق الدولة الحديثة. إذاً فالاختبار هو أن يتمسّك العراق بكلّ ما سمعه وأن يعتبره تعهداتٍ ينبغي الالتزام بها وترجمتها على الأرض وإلزام مَن يتدخّل في شؤونه الداخلية بإنهاء ذلك. 

أثارت قمة بغداد الحماسة في نفوس غالبية العراقيين وهم يستضيفون كبار الشخصيات السياسية العربية والإقليمية في عاصمتهم بعد سنوات طويلة من غياب حدث تاريخي بهذا الوزن. لكنّها أفرحت أيضاً الملايين من العرب والمسلمين الذين تابعوا تدفّق الوفود على العراق لإعلان دعمه والوقوف إلى جانبه في استرداد دوره الإقليمي. ستتزايد فرص العراق حتماً عند الخروج من مستنقع صراعاته المذهبية والعشائرية، والقضاء على حالات الفساد، وإنهاء مواد التحاصص وتقاسم النفوذ والمناطقية في دستوره. 

العراق مقبلٌ في العاشر من تشرين الأول القادم على انتخابات نيابية تحدِّد شكل الحكومة التي ستحكم لأربع سنوات قادمة، لكنّ قرارات قمة بغداد لا يمكنها إلا أن تكون بين أولويات العراق الواجب اعتمادها كخريطة طريق لأيّ حكومة تصل إلى السلطة. سيكون للقمّة ارتداداتها على حسابات رئيس الوزراء العراقي السياسية والانتخابية، وربّما تسهِّل فوزه بولاية ثانية. لكنّ القمة أيضاً ستمنح الكاظمي فرصة أن يلعب دوراً عربياً وإقليمياً أكبر في الملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط. وقد لا تعيد القمّة للعراق، بسهولة وسرعة، دوره الريادي في المنطقة أو الذي غامر به منذ التسعينيات وصولاً إلى كارثة عام 2003. لكنّ المهمّ بالنسبة إليه هو تفعيل قرارات وتوصيات الاجتماع حتى لا يُقال إنّها كانت مجرّد لقاء لا يُنتظر من ورائه تحقيق أيّ أهداف. فقد حقّق المؤتمر الكثير لبغداد. وأثبت العراق أنّه دولة تحظى بثقة هذا الكمّ من القيادات المؤثّرة في الإقليم.

الاستعراض الإيراني

من جهتها، اكتفت إيران بإرسال وزير خارجيّتها إلى القمة، لكنّه لم يتردّد في استعراض عضلات بلاده أمام الحضور بخطوات متعمَّدة ومقصودة. فقد قرّر أن يبدأ مشاركته في القمّة على طريقته عبر زيارة نصب قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشّعبيّ السابق أبو مهدي المُهندس، ثمّ اختار عدم التزامه الوقوف في المكان المخصّص له أثناء التقاط الصور التذكارية بل إلى جانب الرؤساء. ثمّ ذكّر بحصّة إيران العراقية، خلال الكلمة التي ألقاها أمام المجتمعين، بعدما اكتشف أنّ البيان الختامي للقمّة لن يعطي طهران ما تريده وسط أجواء التقارب والمصالحة التركية مع العديد من العواصم العربية، وتجاهُل بغداد لدعوة النظام في سوريا، وهو ما كانت تخطّط له إيران منذ البداية.

ومِن بين ما أغضب طهران عدم تمكّن الرئيس الإيراني من حضور القمة:

1- استجابة لطلب بغداد التي لم تصرّ على رفع حجم مستوى التمثيل الإيراني في المؤتمر.

2- المشاركة العربية المهمّة في القمّة، ووقوف القيادات المصرية والسعودية والإماراتية والقطرية والأردنية يحيطون بالرئيس العراقي مصطفى الكاظمي. وهي رسالة واضحة مؤدّاها التصميم على إعادة العراق إلى مجموعته وهويّته العربيّتين.

3- والتضامن الواسع عربياً وإسلامياً وغربياً مع العراق لمساعدته على مواصلة السياسة المتوازنة التي بدأها قبل أشهر.

لذلك اكتفى الضيف الإيراني برفع شعار أنّ الوجود الأميركي في العراق هو احتلال، وتحدّث عن "المتابعة القانونية الدولية لحادثة اغتيال قاسم سليماني"، وحاول تذكير الحضور بأنّه بدون طهران لا سلام ولا أمن ولا هدوء في العراق.

يحاول البعض الإشارة إلى الدور الفرنسي في التخطيط والتنفيذ لإنجاز عقد قمّة من هذا النوع. ويُقال إنّ مشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أعمال القمة مؤشّر إلى نجاح باريس في ملء الفراغ الأميركي في المنطقة. لكنّ الواقع على الأرض يقول عكس ذلك. فإذا لم تستطع فرنسا فرض نفسها على العديد من الملفات الإقليمية في لبنان وليبيا وإفريقيا، فكيف يمكن أن تقدّم خدمة كبيرة للعراق في ظل النفوذين التركي والإيراني القويّين في العراق؟

يصبّ وجود ماكرون في إطار حساباته السياسية والانتخابية قبل أن يكون في اتجاه دفع مصالح فرنسا التي تراجعت وتضرّرت في أكثر من مكان بسببه. والقمّة هي صناعة عراقية قبل أن تكون فرنسية أو أميركية على مستوى الإعداد والاتصالات، وسيحصد ثمارها الشعب العراقي بكامله إذا ما نجح في استغلال مثل هذا الحدث لإعادة بناء العراق الجديد. 

لماذا لم يحضر إردوغان القمّة؟ 

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لا يفوّت مثل هذه الفرص الاستراتيجية بمثل هذه البساطة. وقوفه وإلقاؤه كلمة من على المنصّة العراقية كان سيترك ارتدادات جديّة. لكنّه اختار الالتزام بمواعيد مسبقة، بينها زيارة البوسنة والجبل الأسود. 

لو كان إردوغان راغباً حقّاً في الحضور إلى العاصمة العراقية لفعل ذلك معدِّلاً جدول أعماله ونشاطاته. كانت اختياراته باتجاه البلقان، لكنّ عينه كانت على بغداد. والإجابة على التساؤل "لماذا لم يشارك الرئيس التركي؟" قد تكون عند ماكرون نفسه، الذي لم يشأ إردوغان منحه فرصة التجوّل في القاعة موزِّعاً الابتسامات وكأنّه هو مَن مارس نفوذه لدفع الرئيس التركي نحو طاولة القمة العراقية، وجمع المتحاورين تحت جناحيه ورعايته، خصوصاً أنّ ماكرون يعوّل على دعم واشنطن له لملء الفراغ الأميركي الإقليمي في محاولة لكسب العالم العربي إلى جانبه لمواجهة النفوذين التركي والإيراني في المنطقة. 

نجاح العراق في جمع السعودية وإيران ومصر وتركيا والإمارات وقطر تحت سقف واحد هو بحدّ ذاته إنجاز سياسي مهمّ لبغداد التي أظهرت أمام الجميع أنّ بمقدورها لعب دور محوري في التوسّط وتليين المواقف وتبديد الخلافات بما ينعكس إيجاباً على استقرار وأمن المنطقة. شئنا أم أبينا، توجد قناعة إقليمية واضحة بالحاجة إلى العراق ودوره في الإقليم. وهناك إجماع على أنّ القيادة العراقية تمكّنت من تحويل مؤتمر بغداد للشراكة والتعاون، إلى بيضة قبّان إقليمية وسط كل هذا الكمّ من الأزمات والمشاكل في المنطقة. 

العراق الذي استضاف قمة التعاون والشراكة بالأمس هو عراق جديد يحاول إنجاز ترتيب شؤون بيته الداخلي، وأن يكون مؤثّراً في تبريد أجواء الشحن والتوتّر الإقليميّين.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس