ترك برس

تشكل جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك "توسياد"، وجمعية الصناعيين ورجال الأعمال المستقلين في تركيا "الموصياد"، أهمية كبيرة بالنسبة إلى الاقتصاد التركي، بل تملكان قوة تستطيع اسقاط حكومات بمجرد إصدار بيان منها.

**"التوسياد-TÜSİAD" 

عندما يسمع البعض عن "التوسياد" يظن أنها إسم لجمعية رجال أعمال عادية تهتم بالتجارة فقط، "مخطئ من يظن ذلك" وفق تحليل سابق للإعلامي التركي الراحل محمد جانبكلي، "فنحن نتحدث عن مجموعة من رجال الأعمال يستطيعون إخضاع حتى أقوى حكومات تركيا بل أسقطوا حكومة بولنت أجاويد، ونجم الدين أربكان".

يقول جانبكلي في سلسلة تغريدات عبر حسابه بموقع تويتر: "التوسياد التي تشكل 50% من الناتج المحلي وتضم آلاف الشركات ويعمل تحت مظلتها 50% من  الأتراك، وتستحوذ على قرابة 85% من إجمالي تجارة تركيا الخارجية".

"كيف وصلت التوسياد لهذه القوة ومن أسسها؟"

في عام 1971 أدرك 12 من أثرى وأغنى رجال الأعمال في تركيا أن قوتهم ونفوذهم السياسي قد يصبح في خطر بعد الصعود المفاجئ للسياسيين والأحزاب المحافظة ورفضهم لوجود قوى علمانية معينة تسيطر على الاقتصاد التركي.

قرر هؤلاء انهم بحاجة لانشاء تكتل اقتصادي مستقل بعيدا عن السياسة، يستطيع بقوته الاقتصادية ونفوذه فرض أجندته على حكومات تركيا بل تستطيع إخضاع الحكومات التركية أجندته ونفوذه إن لزم الأمر، فتم إنشاء إمبراطورية ضخمة سميت لاحقا بـ"التوسياد" ضمت عائلات ثرية جدا مثل "كوتش" و"صابانجي".

ظلت إمبراطورية "التوسياد" بعيدة عن السياسة لبضعة سنوات، وبعد 8 سنوات من تأسيسها بدأت هذه المرة بالتدخل علنًا في السياسة بسبب غضبها من حكومة أجاويد فنشروا اعلانا في الصحف طالبوا فيه الحكومة بالاستقالة وتبعوا اعلانهم بخنق الحكومة بصنع أزمات. 

قاموا باحتكار المواد الغذائية، وتسببوا في رفع الأسعار، بل وجعلوا المواطنين يقفون في طوابير لشراء المستلزمات الأساسية، وتمكنوا من الإطاحة بحكومة أجاويد اليسارية وهي أول وآخر حكومة يشكلها حزب CHP منفردا ومنذ ذلك الحين لم تقم لحزب CHP قائمة.

تعددت الروايات حول سبب إطاحة التوسياد بحكومة أجاويد، منها رواية غضب الولايات المتحدة من حكومة أجاويد المتراكم بسبب غزو قبرص ورفضه نشر طائرات تجسس أمريكية على روسيا في الأراضي التركية أثناء الحرب الباردة.

حركت أمريكا لوبي التوسياد لافتعال أزمات وخنق حكومة أجاويد اقتصاديا، وكانت التوسياد إحدى القوى التي حركت الجيش لانقلاب 1980 ودعمت بعدها حكومة دميرال ذات الأقلية وبدأت سيطرتها الفعلية على السياسة في الخفاء آنذاك

أنهت الجمعية أزمة الطوابير بعد سقوط أجاويد وقاموا بعدها بفرض  الانسحاب على الحكومة من مشاريع القطاعات الخاصة وتركها للتوسياد.

كانت قوة "التوسياد" تكفيها لنسج أي تحالف سياسي والقيام باي مشروع تريده بل تستطيع عرقلة أي مشاريع حكومية قد تضر أرباحهم، فعلى سبيل المثال عارضوا الاستثمار في السكك الحديدية، كون التوسياد هي المتحكم بقطاع السيارات وكون مشروع سكك الحديد ينقص من أرباح بيعهم للسيارات وإطاراتها.

لقد أصبحت التوسياد قوة ضاربة تتبع للنظام العالمي سميت لاحقا بنادي الأثرياء الأتراك، حيث تتحكم بمصير الساسة بل تستطيع تحريك الجيش والضباط وتستطيع تدمير أي شركة كبرى لا تنتمي لكيانها الضخم.

التوسياد لم تكن عبارة عن إمبراطورية اقتصادية فقط، بل سيطرت على الصحافة والإعلام والموضة والأزياء والفن  وعالم كرة القدم، ودور النشر والكتاب والبنوك وسوق الأوراق المالية والجامعات الخاصة، وكانت عبارة عن إمبراطورية تسيطر على كافة مجالات الحياة في تركيا تقريبا.

**"الموصياد-MÜSİAD"

مع بداية حكم تورغوت أوزال وتوليه منصب رئاسة الوزراء وإنشاء هيكل السوق الحر في تركيا، بدأت شركات أناضولية ذات توجهات إسلامية ولأول مرة بالنمو بشكل كبير وشهد الاقتصاد قفزة جديدة بل واستطاعت جذب ثروات المغتربين الأتراك في الغرب وألمانيا.

وفُتحت عيون مستثمري العالم الإسلامي للشركات الأناضولية وبدأ المستثمرون العرب والمسلمون يخلون السوق التركية، فتم إنشاء مؤسسات تعمل بنظام الربح والخسارة، وقامت "كويت تورك" و"فيصل للتمويل" و"البركة تورك" بتمويل بعض هذه المؤسسات وتم إنشاء مؤسسات أخرى برأس مال تركي.

كان هناك رجل أعمال اسمه "Erol yarar - إرول يرار" معروف بانتمائه للتيار المحافظ التركي، وكانت تلعب في رأسه فكرة إنشاء كيان منافس لإمبراطورية التوسياد، لأنه كان من رجال الأعمال الذين يرفضون سيطرة قوى معينة على اقتصاد تركيا، وكان يحلم بأن تكون الإمبراطورية التي يبنيها منافسة "للتوسياد".

عرض يرار الفكرة على أربكان، الذي كان حينها رمزا للتيار المحافظ التركي، وفي عام  1990 قام برفقة بعض رجال الأعمال المحافظين بإنشاء جمعية اسمها "الموصياد" والتي ستصبح لاحقا قوة اقتصادية تركية.

وتم وضع شروطا غير مألوفة وصارمة للانضمام إلى الجمعية ومن هذه الشروط أن يكون الشخص الذي يريد أن ينتمي للجمعية مسلما، وذو سمعة طيبة وأن لا يكون لديه سوابق احتيال وأن لا يكون متورطا بأعمال قمار وغيرها ويعقد اجتماع من المؤسسين للجمعية لدراسة ملف رجل الأعمال الجديد وفي حال تمت الموافقة عليه يضيفونه إلى جمعيتهم.

بسبب سياسة الجمعية المتشددة بتعليم تطبيق الشرع الإسلامي في تعاملاتها، وقواعدها قامت الجمعيات التركية المنافسة لها آنذاك بتسميتها "جمعية رجال الأعمال المسلمين" كنوع من شن حرب عليها كون القوانين آنذاك في تركيا لا تسمح باستخدام أسماء دينية.

بالرغم من الشروط الصارمة التي وضعتها الموصياد إلا أنه بعد بضعة سنوات من تأسيسها أنضم لها 2500 رجل أعمال يملكون 7500 شركة يعمل بها مليوني عامل تركي، وأصبحت الموصياد تفوق امبراطورية التوسياد عددا لكنها لازالت خلفها في القوة والمال والثراء.

الموصياد بدأت الدخول في كافة المجالات من المحركات وقطع الغيار والكهرباء والالكترونيات إلى المنسوجات والمقاولات والتعدين الغذاء والمفروشات بل رفعت هدف معلن وهو جعل تركيا قوة اقتصادية وتلقت دعما مطلقا من أربكان لأنه كان يتوجه لدعم إقتصاد تركي يعتمد على الاكتفاء الذاتي والتصدير.

الموصياد أصبحت إمبراطورية تضم 10 آلاف رجل تركي و60 ألف شركة وتنشط في 95 دولة حول العالم وتسهم في 18% من الناتج التركي

قد يسأل قائل… كيف سمحت التوسياد للموصياد بناء إمبراطورية ضخمة كي تقوم  منافستها، وهي تدمر كل من ينافسها. ومن قال لكم إن التوسياد لم تحارب الموصياد.

لقد شهدت الموصياد قوة كبيرة أثناء حكم أربكان وكانت تحتمي بحكومته وهو لم يكن يتوانى في دعم هذه الجمعية لفائدتها الكبيرة على الاقتصاد التركي ولاعتبارها جبهة لمواجهة سطوة التوسياد على الاقتصاد وهنا قررت التوسياد أنه من الصعب تصفية الموصياد دون إسقاط حكومة أربكان.

قبيل الانقلاب الناعم في 28 شباط بفترة قصيرة نشرت صحيفة "حرييت" التي كان يملكها أحد أثرياء التوسياد مانشيت بعنوان (هذه المرة سيتم حل الأمر بدون قوة السلاح). وهو ما تم بالفعل، فقد ضغط الجيش على أربكان من أجل إسقاط حكومته وهو ما حدث.

بعد سقوط حكومة أربكان حركت "التوسياد" القضاء العلماني ليشن هجمات على الشركات الأناضولية الناشئة وينكل بها بعد أن دخلت هذه الشركات مجال البنوك واتخذت سياسة مغايرة لسياسة التوسياد تقوم على الربح والخسارة وليس الفوائد فقام القضاء بإغلاق عدد من شركات الموصياد ومصادرة أصولها.

صحيح أن الموصياد تعرضت للتنكيل من القضاء والحملات الاعلاميه الشرسه التي شنتها عليها التوسياد، وتسميتها بـ"رأس المال الأخضر" و"جمعية رجال الأعمال المسلمون" إلا أن الموصياد نجت واستقلت قارب للنجاة من خلال اتباع سياسة الإبقاء على مسافة بينها وبين السياسة.

مع قدوم حكومة رجب طيب أردوغان، اتخذت التوسياد والموصياد ولأول مرة سياسة هادئة وتقريبا شبه مؤيدة للحكومة الجديدة إلا أن سياسات حكومة أردوغان لم تكن تعجب أحيانا كبار "التوسياد" فدخلوا مع أردوغان في مواجهة غير مباشرة.

دخلت حكومة أردوغان منذ 2013 في صراعات غير مباشرة مع كبار قادة التوسياد؛ كوتش، أي دوغان. بل دعمت عائلة كوتش أحداث غيزي بارك لإسقاط حكومة أردوغان.

التوسياد ليست بالأمر السهل مع هذا هي تعلم قوة أردوغان وحكومته في تركيا فاتخذت وضعية شبه محايدة منذ سنين لكن قبل أقل من شهر تغير الحال، وخرجت التوسياد ولأول مرة منذ سنين بتصريحات علنية ضد حكومة أردوغان وطالبت الحكومة بالعودة للعدل وعلمانية الدولة.

ثم عاد رئيس التوسياد الجديد ذا الأصول اليهودية الإيطالية وطالب حكومة أردوغان برفع الفائدة مجددا بل اجتمع مع رئيس المعارضة وطالب حكومة أردوغان بإجراء انتخابات مبكرة لإنقاذ البلد الأمر الذي دفع أردوغان للخروج بتصريحات يهاجم فيها التوسياد ويذكرهم بأن تركيا الحالية ليست كالقديمة.

أما الموصياد وكالعادة فقد أعلن دعمها لحكومة أردوغان كونها وقراراتها تتماشى مع سياسة الموصياد في حين أن التوسياد تبدو وكأنها قد قررا المواجهة مع حكومة أردوغان علما أن التوسياد تجنبت المواجهة المباشرة منذ سنين ولم تكن الحكومة ترغب بذلك.

بالرغم من قدوم التوسياد على خطوة تصعيدية ضد حكومة أردوغان إلا أنه يمول العديد من المشاريع التي تبنتها الحكومة مثل مشروع السيارة الكهربائية

بعد قراءة هذه السلسلة قد يختلف البعض على شيئين؛ محبو أردوغان يرون تعرضه لمؤامرة حقيقية، ومعارضوه يرون أنه كل يوم يحاول إلقاء اللوم على جهة ما لتبرير فشله الاقتصادي وبين هذا وذاك هناك من يبحث عن الحقائق.

لكن من يعرف الداخل التركي يعلم أن تركيا تختلف عن كثير من بلدان العالم بعدة أشياء. مثلا هناك عدة منظمات مسلحة وغير مسلحة يتم تسليطها على أي حاكم تركي حال خرج من خط الناتو خصوصا بعد تأسيس الناتو العميق.

**"الحركات المسلحة"

حزب العمال الكردستاني PKK

صقور الحرية الكردستاني TAK

جبهة التحرير الشعبية DHKP_C

جيش التحرير الشعبي THKO

**"المنظمات الاقتصادية والعسكرية غير المسلحة" 

حركة الخدمة (جماعة غولن)

جمعية (Tüsiad)

جمعية (Müsiad)

الغلاديو (في الجيش يتبعون الناتو)

جماعة الاوراسيين (في الجيش يتبعون المعسكر الروسي)

البسطائيين

المافيا

النقابات المستقلة

منظمات البيئة

كل هذه المنظمات مستقلة عن أي حكومة تركية، أما الجماعات المسلحة يتم تسليطها على جهاز الاستخبارات (MİT) دائما لاشغاله.

لنذهب من البداية لتاريخ أول رئيس خرج عن خط الناتو عدنان مندريس، الذي تم إعدامه من المعسكر الذي ينتمي للناتو بسبب محاولة استخدام سياسة مستقلة  بالرغم من أنه هو من أدخل تركيا للناتو

حكومة أجاويد الأولى: تم إجباره وبشكل علني من جميعة التوسياد

حكومة أوزال: تم اغتياله بالسم بسبب محاولة قيامه بالمصالحة مع الأكراد

قائد الجيش ذو الأصول الكردية "أشرف بيتلس": تم إسقاط مروحيته بعد توصله تماما لحل لمشكلة تنظيم PKK سلميا وبعد عودته من لقاء بارزاني في العراق.

حكومة أربكان: تم اجبارها على الاستقالة بالقوة الناعمة وبطريقة غير مباشرة من التوسياد

حكومة أجاويد الثانية: تم إسقاطها بالأزمات الاقتصادية المفتعلة

وأخيرا حكومة أردوغان: ترى ما الذي تعرضت له حكومة أردوغان الحكومة الأطول في تاريخ الجمهورية التركية التي انتخبت ديمقراطيا.

في السنين الأولى من حكم أردوغان كانت أوروبا تعتبره رمزا للاسلام الحديث وكان الإعلام الغربي يتغنى به لكن فجأه مالذي حدث؟

بدأ أردوغان بإعلان أهداف حكومته من استقلال سياسي واقتصادي وعسكري وبدأ بالخطوات الأولى من خلال محطات الطاقة النووية والإعلان عن الاستثمار في مجال الطيران المسير والإعلان عن الدعم الحكومي التركي لشركات الدفاع وتطوير صناعات الدفاع وهنا بدأ الصراع مع جماعة غولن حليف أردوغان السابق التي أرادت التغلغل في مؤسسات الدولة وإنشاء كيان موازي.

وخلال حكم حكومة أردوغان الأطول لم تشهد إستقرار لمدة 3 سنوات على الأقل ففي كل عام تظهر مواجهات جديدة مع حلف جديد، ولا تنسوا حكومة أردوغان محاطة أيضا بـ100 حزب معارض وكل حزب يمتلك وسيلة إعلام على الاقل وكلها تنتقد الحكومة بشكل يومي وتهول الأحداث حتى لو كانت صغيرة.

أما صراعات حكومة أردوغان خارجيا: فدخلت في الصراع السوري في مواجهة ثلاث حلفاء، ودخلت على خط الأزمة الخليجية في مواجهة 4 حلفاء، ودخلت في الأزمة الليبية في مواجهة عدة حلفاء، ودخلت في صراع قره باغ مع أذربيجان في مواجهة أرمينيا، ودخلت في صراع غاز المتوسط ضد 4 حلفاء، ودخلت في الصراع مع الولايات المتحدة بسبب PYD الكردي، ودعم أمريكا جماعة غولن، ودخلت في أزمة مع أوروبا بسبب موجات اللجوء.

من يشاهد كمية الصراعات التي تواجهها حكومة أردوغان داخليا وخارجيا يستغرب فعلا كيف وقفت على أقدامها كل هذه الفترة والتي جعلت الرئيس الأمريكي جو بايدن بنفسه يحتار في ذلك ويعلنها أمام العالم بالقول أنه يستحيل سقوط أردوغان عسكريا، والحل هو دعم المعارضة لاسقاطه. هل سمعتم بايدن أو غيره من رؤساء أمريكا قد هدد رئيس حكومة تركية بهذا التهديد؟

العجيب أنه بعد ذلك شهدت حملات المعارضة قوة هائلة متزامنة مع اضطرابات اقتصادية للحكومة التركية ومستغلة ذلك جمعية التوسياد التي دخلت المواجهة ضد حكومة أردوغان رسميا بعد إعلانه الحرب على لوبي الفائدة.

حكم دولة كتركيا ليس بالأمر السهل ومن يحكم تركيا  كمن دخل في حقل ألغام، فكل خطوة يخطوها يجب أن تكون دقيقة ويأخذ العبرة بمصير من حكم تركيا سابقا. وحكومة أردوغان قد لا تكون بذلك بالسوء الذي يصوره لكم معارضوها وليست بالجمال الذي يحاول إظهاره لكم مؤيدوها.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!