محمود عثمان - خاص ترك برس

رافق التوقيع على الاتفاق النووي الايراني مع الدول الست نقاش كبير حول مخرجاته وآثاره المستقبلية على أمن منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا وأنه أتى في مرحلة تاريخية حساسة عصيبة، حيث يعاد رسم خريطة المنطقة الجيوسياسي من جديد . في ظل حروب طاحنة واستقطاب سياسي وشحن مذهبي طائفي حاد، وصراع كبير بين القوى العالمية والإقليمية على تقاسم ساحات النفوذ.

وفيما يبدو الأمريكان أزهد القوى الدولية وأقلها شهية على الاستحواذ على قطعة من هذه الكعكة حيث عيونهم على منطقة الباسفيك، نجد سعيا إيرانيا منقطع النظير لوضع المنطقة بأسرها تحت سيطرتها لو استطاعت، الأمر الذي لا زال يسبب مصدر قلق حقيقي لدول المنطقة تركيا ودول الخليج العربي على وجه التحديد.

في هذا الظرف العصيب شاهدنا البارحة مراسم الاحتفال بالتوقيع على الاتفاق النووي الايراني في الثواني الأخيرة من آخر يوم مهلة، حيث اعتبره الطرفان الموقعان إنجازا تاريخيا هاما، ونصرا عظيما مؤزرا للأمن والسلام العالمي. بينما خرج الإيرانيون إلى الشوارع مبتهجين بهذا الإنجاز الكبير الذي سيكسر عزلتهم ويخلصهم من قيود الحصار المفروض عليهم منذ أكثر من عشرين عاما.

مشهد يعيد الذاكرة إلى اتفاقات مشابهة رعتها الولايات المتحدة الأمريكية مثل اتفاقية كامب ديفيد التي اعتبرت في حينها نقطة تحول في تاريخ المنطقة، ثم ما لحق بها من اتفاقيات أخرى مثل اتفاقية أوسلو واتفاقية مدريد وتوابعها.

مشهد يطرح سؤالا ملحاً حول ماذا جنته البلاد العربية من تلك الاتفاقات والمعاهدات؟ وكيف كان انعكاساتها على مصير الأمة العربية وقضيتها الجوهرية القضية الفلسطينية؟. وهل عادت على البلاد العربية بشيء من النفع مادياً ومعنوياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً؟. لا أعتقد أن مواطناً عربياً أو مسلماً أو حتى إنساناً حراً واحداً يمكنه الدفاع عن تلك المعاهدات والاتفاقيات، أو أن يعدد لنا بعضاً من خيراتها وبركاتها وإيجابياتها.

بالمقابل سنجد شبه إجماعي على أن تلك الاتفاقيات ومن دون الدخول في تفاصيلها شكلت حالة ارتهان وخضوع واستسلام للطرف الآخر. ولا يزال طوني بلير ولجنته الرباعية تحاول استثمارها إلى أقصى حد. وسيكون من السذاجة بمكان تصور أن الغرب سيتعاطى مع الإيرانيين بطريقة مغايرة لتعاطيه مع العرب، حيث يذهب البعض إلى أنه – الغرب – سيكون أكثر تسامحا ومرونة مع إيران، ظانين أنه سيقول للإيرانيين اعملوا ما شئتم لا تثريب عليكم طالما أنكم وقعتم على هذا الاتفاق!.

صحيح أن هذا الاتفاق بين الدول الست وإيران هو بالفعل بداية صفحة جديدة لكنه في الوقت ذاته مقدمة لا مفر منها للتطبيع بين الولايات المتحدة وإيران على غرار التطبيع مع كوبا. وصحيح أن إيران ليست بلداً ديمقراطياً يقدم مصلحة شعبه ونموه وررفاهيته على بقية الأولويات والاعتبارات، وأن رفع العقوبات سيكون لمصلحة الحرس الثوري الذي يوزع عائدات الدولة الايرانية على وكلائه في لبنان وفي طليعتهم حزب الله اللبناني ونظام الأسد وميليشيات الحشد الشعبي في العراق المؤيدة لإيران، وأن هذه الميليشيات ستتلقى اموالاً أكثر ودعما أكبر بعد رفع تلك العقوبات. لكن علينا ألا ننسى أن إيران أصبحت ومن خلال هذا الاتفاق مرتهنة للغرب نوويا فهي تحت التحكم والسيطرة بشكل دائم، وهي مقيدة عسكريا حيث اضطرت إلى التراجع عن كثير من مشاريعها العسكرية الطموحة مثل الصواريخ الباليستية بعيدة المدى وغيرها. ولا زالت التصريحات الأميركية تشير إلى أن الحرس الثوري الذي يشكل العمود الفقري لنظام ولاية الفقيه الايراني ما زال على لائحة الإرهاب الأمريكية.

كما أن إيران تحولت إلى سوق اقتصادي مفتوح للغرب، وما تهافت الشركات الأمريكية والأوروبية قبل ستة أشهر على زيارتها، وإعلان الرئيسين الفرنسي والألماني عزمهما زيارة إيران عقب توقيع الاتفاق مباشرة إلا شاهدا ودليلا على أن أيران تحولت إلى سوق أوربي مفتوح بينما تكون العقود الكبيرة من حصة الأسد الأمريكي، ومن يقول أو يظن أن الإيرانيين سوف يستفيدون من ذلك الانفتاح وسيبيعون بضائعهم في السوق الأوروبية والأمريكية عليه أن ينظر إلى ميزان التبادل التجاري بين تركيا والاتحاد الأوروبي من لدن توقيعها على اتفاقية الاتحاد الجمركي مع الاتحاد الأوروبي الذي نتج عنه تصفير الضرائب الجمركية بين الطرفين حيث تشير الإحصاءات الرسمية أنه لا زال في صالح الأوروبيين. وإذا كان الأمر بهذا الشكل مع تركيا التي تتفوق على إيران بأضعاف فما بالك به مع الاقتصاد الإيراني المهترئ!.

من جهة أخرى فقدت إيران أهم ذرائعها وأساس منظومتها الدعائية، إذ أصبحت بعد الاتفاق جزءا من المنظومة الأمريكية الغربية التي تضع حماية إسرائيل في قمة أولوياتها، مما سيجعل أكاذيب "الشيطان الأكبر" و "محور الشر" مكشوفة مفضوحة. ولعل الأهم من ذلك كله هو تحول ايران استراتيجيا، فبعد أن كانت حليفا استراتيجيا للروس تحولت لتصبح شريكا استراتيجيا للأمريكان.

مما سبق يبدو جليا أن الإيرانيين لم يعتبروا من تجارب جيرانهم العرب، ولم يستفيدوا من نصائح جيرانهم الأتراك، فما توصلوا إليه واعتبروه نصرا سياسيا مؤزرا كان الأتراك قد أمنوه لهم قبل أربع سنوات.

تركيا التي عبرت عن ارتياحها لهذا الاتفاق تعتبره فرصة اقتصادية سانحة لتطوير تبادلاتها التجارية مع جارتها، وخصوصا إذا تم اعتماد مرور خطوط البترول والغاز الإيراني من أراضيها إلى أوروبا، حيث بدأت قبل سبعة أشهر أعمال مد الأنابيب.

إيران أمام منعطف تاريخي خطير، فإما أن تختار استراتيجية تركيا الحضارية السلمية في تصفير المشاكل والالتفات إلى الإعمار والبناء والازدهار، أو تختار الطريق الآخر فتشتري مزيدا من السلاح وتصب المزيد من الوقود على نار الحرب المشتعلة، فتستنزف موارها هي وتستنزف موارد ومقدرات الآخرين لتبقى المنطقة تتخبط في متاهات الصراعات والحروب. فأيهما ستختار؟!.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس