د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

ولد محمد العربي زروق بتونس العاصمة سنة 1823م وتعلم بها، والتحق في شبابه بالكلية الحربية بباردو، وتعلم على أيدي أساتذة أكفاء من التّونسيين ومن الضباط الأتراك والأوروبيين؛ وتخرج من هذه الكلية بامتياز وبرتبة ملازم، وهو شديد الغيرة على المصلحة العامة ومحب للفقراء.  وتدرج في سلم الوظائف إلى أن انتهى به المطاف ليصبح  أمير لواء ثم مديرا للمدرسة الصادقية، وكان يحذق أكثر من لغة أجنبية. وبفضل مواهبه المتعددة وحسن سلوكه اختير ليكون رئيسا لبلدية العاصمة، ثم كان أحد أعضاء مجلس الشورى الذي تأسس للنظر في درس ميزانية البلاد وإبداء الرأي في مشاريعها.

ومحمد العربي زروق الوطني الغيور والوفي لمبادئه، بقي مسؤولا في هذين الخطتين إلى ما بعد الاحتلال بأيام قلائل، حيث جُرّد منهما، واضطهد بسبب موقفه المعارض ضد انتصاب الحماية الفرنسية على تونس حيث طلب منه أن يُلازم مسكنه الواقع في "نهج الحكام" بالعاصمة تنفيذا لأوامر الباي وبطانته.

لقد رفض محمد العربي زروق رفضا قاطعًا فكرة التّوقيع على معاهدة باردو المكونة من عشرة بنود وتقضي باحتلال البلاد التّونسية من قبل فرنسا تحت مسمى "الحماية", فعند وصول القوات الفرنسية إلى قصر باردو يوم 12 سنة 1881م دخل الجنرال الفرنسي "بريارد" والقنصل الفرنسي بتونس "روسطان" على الباي. وتمّ عرض المعاهدة التي تم إعدادها سابقا بالتّنسيق مع الوزير الأكبر ورجل فرنسا بتونس مصطفى بن إسماعيل للتّصديق عليها بعلم من الباي، فجمع الباي مجموعة من كبار السّياسيين بالبلاد للإيهام بأنّه يستشيرهم في الأمر وأنه لا علم له بالمعاهدة. وكان من بينهم رئيس بلدية العاصمة محمد العربي زروق. وعند الاستشارة رفض العربي زروق بشدة التّوقيع على المعاهدة واعتبر أنها تمثل استسلاما وتسليما لتونس للأعداء.

تمت محاصرة العربي زرّوق في الحي الذي يقطنه، ولم يُسمح له بالتّواصل مع المواطنين خوفا من أن يكون لموقفه الرّافض لدخول الفرنسيّين البلاد تأثير على بقية السّياسيين والأهالي قتؤول مخططات الفرنسيين إلى خُسران مبين. وأمام كثرة الجواسيس، التي ملأت الحي الذي يقطنه، تخلّى عنه جميع الأصدقاء والخلاّن، ولم يعد يدخل بيته إلا أفراد عائلته وطبيبه الإيطالي الخاص الذي يدعى "مونايبيني". وفي هذا الوضع الصّعب، قضى الرّجل أكثر من شهرين في داره معتقلا، وكانت أحيانا تصله أخبار سارة عن تحرّكات الشعب للثّورة، ويظهر أن البعض من أقواله وصل للباي وللفرنسيين أيضا، ولذلك وقع التفكير في التخلص منه نهائيا بقتله.

وبلغت هذه المؤامرات مسامع العربي زروق عن طريق زوجة الباي وزوجة مصطفى بن إسماعيل. ومن هنا بدأ يفكر جدّيا في مغادرة البلاد والالتجاء إلى الخارج. وفي يوم خروجه من داره بــ"نهج الحكام"، وهو يوم 18 جويلية 1881م، تمكن العربي زروق، ومن باب خلفي من منزله من أن يخرج ليلا ويخترق بعض الأزقة الضيقة من المدينة العتيقة ليصل فيما بعد إلى السفارة البريطانيّة بتونس والموجودة في مدخل باب البحر. ووفرت له السّفارة البريطانية بتونس  بعد أيام قليلة عمليّة خروجه على متن جوالة بريطانية، وتوجّه في التوّ إلى إسطنبول عبر إيطاليا.

في إيطاليا قصد سفارة الدّولة العثمانية في روما وأخبر المسؤولين هناك بأنّه ينوي التّوجه إلى اسطنبول. وطلب منها أن تُعلم الحكومة العثمانية في اسطنبول بهذا الموضوع لكي يتم اتّخاذ الإجراءت اللازمة لاستقباله. وبالفعل أرسلت السّفارة العثمانية في روما خطابا إلى وزارة الخارجية في اسطنبول بتاريخ 20 جويلية سنة 1881م جاء فيه: "بعد الأحداث الأخيرة التي وقعت في تونس، أُجبر رئيس بلدية تونس السّابق العربي زروق باشا وأحد أمراء اللواء فيها على ترك الوطن والتفكير في الهجرة إلى اسطنبول. وسوف يتحرّك هذا المساء. ونظرًا للطلب الذي قدمه إليّ أنا العبد الضعيف أثناء مروره بروما، أودّ أن أخبر جنابكم بأنه سوف يصل قريبا إلى دار السّعادة وألتمس من جناب الحكومة السّنية إحاطته بالعناية والاهتمام"(1).

وقد وافقت الحكومة العثمانية على استقبال محمد العربي زروق، لكنّها استفسرت من السّفارة العثمانية في روما عمّا إذا كان هذا الضيف سيبقى مدة قصيرة فقط أم سيقيم لمدة طويلة، وعلى ضوء ذلك يتم اتخاذ الإجراءت المطلوبة في هذا الخصوص(2).

وبعد وصوله إلى اسطنبول استقبله الوزير خيرالدّين باشا الذي استقرّ هنا بشكل نهائي، كما يبدو أنه زار السّلطان عبد الحميد الثاني في شهر أوت من العام نفسه(3)، فأكبر فيه موقفه الرافض للاحتلال، خصوصا وأنّ الحكومة العثمانية حذرت والي تونس من توقيع أية اتفاقيات بشكل منفرد مع فرنسا، ونبهته بأن لا يخطو أية خطوة إلا بعد التشاور معها.  

تم إكرام محمّد العربي زروق أثناء إقامته في اسطنبول ووفرت له الحكومة العثمانية سكنا مناسباً وراتبا كافيًا، وحظي باحترام السّاسة والعلماء وأهالي اسطنبول الذين كانوا يتابعون عن كثب ما حلّ بتونس، ويشعرون بالحزن وهم يرون عضوًا آخر من أعضاء الدّولة يتم اقتطاعه على يد الأعداء المتربصين.

ثمّ رأى زروق أن يترك اسطنبول عام 1888 م بعدما قضى فيها سبع سنوات ليتحوّل إلى الحجاز ويستقر نهائيا في المدينة المنوّرة مجاورًا لقبر الرّسول الأكرم عليه السّلام. وفي المدينة المنورة عاش قرير العين يتعبد الله، وملتمسا منه الهداية وقبول دعواته ليجلي الفرنسيين عن بلاده. واعتاد الرجل في المدينة أن يكرم الحجاج من أبناء وطنه، كما كان حريصا على أن يتلقى أخبار بلاده عن طريقهم.

وعاش محمد العربي زروق في المدينة المنورة أربع عشرة سنة مكرّما، ومهابا، ومعزّزا من كلّ من عرفه، كما أن الرّاتب الذي كان يأخذه وهو في اسطنبول رافقه عندما انتقل إلى هذه الدّيار المقدسة اعترافًا لهذا الرّجل بمواقفه الشّجاعة وإخلاصه في خدمة دينه ووطنه. وتوفي محمد العربي زروق بتاريخ 6 حزيران/ يونيو 1902م تاركا خلفه كلمة خالدة مدوية صدع بها في وجه الفرنسيين المحتلين وفي وجه الوالي المتخاذل الجبان هي "لا للاحتلال".


الهوامش:

1- الأرشيف العثماني باسطنبول، وثيقة رقم I.HR 284/17669, lef 2

2- الأرشيف العثماني باسطنبول، وثيقة رقم I.HR 284/17669, lef 3

3- الأرشيف العثماني باسطنبول، وثيقة رقم I.HD 833/67063

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس