د. باسل الحاج جاسم - خاص ترك برس

يبدو للوهلة الأولى الحديث عن تقسيم سوريا، على لسان مسؤولين أمريكيين، وقبلهم إسرائيليين، وكأنه إنذار، موجه لجميع الأطراف المعنية بالملف السوري، أكثر منه استراتيجية معدة لديهم مسبقا، فغياب الاستراتيجية واللامبالاة الأمريكية هي التي أوصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم.

وإذا تحدثنا بشكل واقعي، بات التقسيم موجودا على الأرض السورية، مناطق يسيطر عليها نظام الأسد، وأخرى بيد الأكراد، وثالثة بيد تنظيم الدولة الإسلامية، ورابعة بيد ما تبقى من فصائل عسكرية معارضة، وربما خامسة تسبح خارج أي منظومة.

والتدخل البري المرتقب، سيكون لتنظيم الوضع في مناطق سورية معينة، على أمل أن تحصل بعدها مفاوضات جدية مباشرة، مثمرة بين الأطراف الفعالة على الأرض السورية، ولا يمكن إغفال حقيقة أنّ موسكو وطهران تستطيعان التأثير أكثر من غيرهما، لأنهما موجودتان على الأرض السورية، بينما أنصار المعارضة (تركيا والسعودية وقطر) لا يوجد أحد منهم، حتى اليوم.

من غير المتوقع تراجع أنقرة، عن خطواتها لمنع ميليشيات كردية من إنشاء كيان عازل على حدودها، حيث تخشى تركيا نجاح جهود الأكراد إقامة منطقة حكم ذاتي في سوريا على غرار المنطقة الكردية في شمالي العراق، وهو ما قد يحفز طموحات الأكراد بإقامة دولة انفصالية مماثلة في تركيا.

حقيقة الوضع المعقد تجعل من الصعب على أحد تحديد إلى أين يمكن أن تتجه الأمور، فهي في لحظة ما يمكن أن تنقلب رأسا على عقب، مثل المفاجأة وتغيير الموازين الذي حصل بعد إسقاط تركيا الطائرة الروسية التي قالت إنها انتهكت أجوائها أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.

الواضح إلى اليوم أن هدف روسيا من الهدنة التي يبدو أنها جاءت بمبادرة منها، وقف الاندفاع التركي، بعد تفجير أنقرة الإرهابي، ولا سيما بعد فشل موسكو باستصدار قرار من مجلس الأمن يمنع أي تحرك تركي بري باتجاه الأراضي السورية، باتت موسكو تراه وشيكا، ولم تنفع دعوة واشنطن تركيا لوقف العمليات العسكرية والقصف على مواقع ميليشات صالح مسلم، فأنقرة مصرة على مواصلة قصف مواقعهم في الأراضي الحدودية السورية.

تعيش تركيا، هذه الأيام، أشد فترة في تاريخها الحديث حرجًا، فالأوضاع الدولية والإقليمية تتطور بشكل كبير وسريع ضد مصالح أنقرة، ولأول مرة في التاريخ، تكون روسيا جارة لتركيا من الشمال والجنوب، كما أن دور الولايات المتحدة في المنطقة بات أقرب إلى اللامبالي مقابل التحرك الروسي المكثف.

لكن الواضح من تحركات تركيا الأخيرة، محاولتها تجاوز بعض الأخطاء التي وقعت فيها سابقا، في تعاملها مع الملف السوري، من خلال توسيع تعاونها مع الأطراف العربية المتضررة الحقيقية من خسارة سوريا، الأمر الذي يعطيها غطاء عربي إسلامي، ناهيك عن مشاركة بعض تلك الدول وبشكل مباشر في أي تحرك عسكري تركي مرتقب، بالإضافة لإسراعها بالموافقة على شروط إسرائيل لعودة التطبيع، الشيء الذي يؤمن لأنقرة غطاء دولي، وتوازن أمام الحلف الإيراني الروسي، كما أن تركيا تضع حلف الناتو على المحك، وربما لأول مرة في تاريخه، بتفعيل المادة الرابعة، وهي الدفاع عن دولة عضو في الحلف في حال تعرضها لهجوم عسكري، وأهمية اللحظة أن كافة دول الناتو ولا سيما في أوروبا الشرقية، التي تعيش هاجس القلق من روسيا بعد تمزيق الاخيرة لأوكرانيا، كلها تترقب موقف الناتو حيال أي هجوم تتعرض له تركيا.

الجبهة الداخلية التركية، باتت اليوم أقرب من أي وقت، لموقف يتماشى مع حكومة العدالة والتنمية، فقد صرح دنيز بايكال النائب البارز والرئيس السابق لحزب الشعب الجمهوري (أكبر الأحزاب المعارضة في تركيا)، أنه يجب عدم الخلط بين الانتقادات الموجهة لحكومة حزب العدالة والتنمية، ومصالح تركيا القومية، وذهب إلى أكثر من ذلك وأضاف أنّ الدولة التركية تمتلك حق الدفاع المشروع فيما يخص قصفها لمواقع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، لافتًا إلى أنّ حكومة العدالة والتنمية محقة في منع عناصر هذا الحزب من الاقتراب من مدينة أعزاز التي تعد استراتيجية بالنسبة لتركيا، وكذلك أطلق زعيم القوميين الأتراك دولت باهتشلي الذي يترأس ثاني أكبر حزب معارض في تركيا "صرخة"، وهو يخاطب رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو: انطلق كالصاعقة إلى شمال سوريا إذا لزم الأمر.

ومن الواضح أن اتفاق الهدنة جاء لذر الرماد في العيون، أكثر منه ليطبق على أرض الواقع، ويمكن استنتاج ذلك من التصريحات التي تشير إلى موت الهدنة قبل ولادتها، ولا سيما القادمة من واشنطن بالاستعداد من الآن لخطة بديلة، حيث صرح كيري في كلمة له خلال جلسة لمجلس الشيوخ، إلى أن عدم إيجاد حل للأزمة السورية عبر طاولة المفاوضات، سينجم عنه تدمير البلاد بالكامل، قائلًا أعلم جيدًا، أنه في حال فشل الاتفاق، فهناك احتمال انهيار سوريا بالكامل، وأكد، إن كان الروس والإيرانيون ليسوا جادين في موضوع تحقيق عملية السلام، فإن ذلك سيتسبب في مزيد من الاختلاف الفكري، والانتقال إلى الخطة (ب) التي تؤجج القضية بشكل أكبر، وحدها موسكو ولأن رياح الهدنة تسير بما تشتهيه سفنها توحي للجميع أن الحل بات قريبا من أي وقت مضى.

وأشار رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو، كان يجب أن تصنف اتفاقية الهدنة ميليشيات YPG  أيضا بين التنظيمات الإرهابية، لكن ذلك لم يحدث، محذرا إياها بالقول: "ولكن ليعلموا جيدا أن هذا الاتفاق ساري بالنسبة لسوريا فقط والأطراف المتنازعة فيها، وبناء عليه في حال تشكيل أي من الأطراف الإرهابية في سوريا تهديدا على تركيا وأمنها، فإن اتفاقية وقف إطلاق لن تكون ملزمة بالنسبة لنا"، وفي الوقت نفسه أعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، وصول طواقم عسكرية ومعدات من السعودية والإمارات إلى تركيا.
وتجدر الإشارة إلى أن معارضة موسكو، ونفيها لوجود أي خطة بديلة، في حال انهيار الهدنة، ربما يكون لصالح الأطراف الأخرى، الشيء الذي يجعلها تأخذ زمام المبادرة بمفردها، وتشير كل التحركات والتصريحات، إلى أن الخطة "ب"، قادمة لا محالة، وسنكون أمام خيارين: حرب عصابات على الطريقة الأفغانية، تخوضها كتائب المعارضة المسلحة، ضد، تنظيم الدولة الإسلامية، بدعم تركي عربي دولي، وضد الأسد والميليشيات العرقية والطائفية الموالية له، وبدعم عربي تركي، وهذا ما تم التلميح له إن كان من المسؤولين الأتراك، بتذكير روسيا بهزيمتها المذلة في أفغانستان، أو ما جاء على لسان عادل جبير وزير الخارجية السعودي، حين أشار إلى أن تزويد المعارضة السورية المعتدلة بمضاد طيران، أمر ممكن، وأعاد إلى الأذهان السيناريو الأفغاني، وهو رسالة أمريكية أيضا لموسكو، مع الأخذ بعين الاعتبار استمرار القصف التركي لإبعاد مقاتلي ميليشات صالح مسلم عن المناطق الحدودية، والخيار الآخر، تحرك تركي كالبرق إلى مناطق الشمال السورية، بغطاء جوي عربي في إطار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.

عن الكاتب

د. باسل الحاج جاسم

كاتب وباحث في الشؤون التركية الروسية، ومستشار سياسي، ومؤلف كتاب: كازاخستان والآستانة السورية "طموحات نمر آسيوي جديد وامتحان موسكو"


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس