عمر كوش - العربي الجديد

تشهد تركيا، لأول مرة في تاريخها، جولة ثانية من الانتخابات الرئاسية في 28 مايو/ أيار الجاري، لحسم نتيجتها إما لصالح الرئيس رجب طيب أردوغان، مرشّح تحالف "الجمهور"، أو لصالح كمال كلجدار اوغلو، مرشح تحالف "الأمة"، الذي يضم أحزاب "الطاولة السداسية"، وسط توقّعات بأن يحسم أردوغان نتيجة المنافسة بينهما، ويُعاد انتخابه ثانية وفق النظام الرئاسي ليحكم البلاد حتى عام 2028، خصوصا أن تحالفه يتّجه إلى الفوز بأغلبية في البرلمان الجديد، بحصوله على 321 مقعداً من مجموع أعضائه البالغين 600 عضواً.

لن تكون الجولة الثانية من الانتخابات سهلة، بالنظر إلى فارق النقاط الضئيل بين أردوغان (49.51%)، وكلجدار أوغلو (44.89%)، بحسب النتائج النهائية الرسمية للجولة الأولى، وإلى توقّف حسمها بالدرجة الأولى على أصوات من انتخبوا المرشّح الثالث، سنان أوغان، مرشّح تحالف الأجداد (أتا)، الذي حصل على نسبة 5.17%، ووضع شروطاً وصفها بالخطوط الحمراء، تمثلت في "مكافحة الإرهاب، والابتعاد عن الأحزاب السياسية التي تدعم المنظمات الإرهابية، وإرسال طالبي اللجوء إلى بلادهم". ولم يخف أن هدفه إزاحة حزبين كرديين عن "المعادلة السياسية" التركية، ودعم القوميين والعلمانيين الأتراك، معتبراً أن "نتائج الانتخابات أظهرت نجاحه" في ذلك، حيث يقصد بالحزبين الكرديين، الشعوب الديمقراطي الذي دخل الانتخابات تحت اسم حزب اليسار الأخضر وأعلن عن دعمه كلجدار أوغلو، وحزب الدعوة الحرّة "هدى بار" الكردي الإسلامي الذي يدعم أردوغان.

وبالفعل، بدأت الاتصالات مع أوغان فور أن أعلنت الهيئة العليا للانتخابات التركية الانتقال إلى الجولة الثانية، وبعد أن أطلق سلسلة من المساومات استهدفت كلا التحالفين، الجمهور والأمة، وبات يطلق عليه لقب "صانع الملوك" المحتمل، نظراً إلى امتلاكه النسبة المرجّحة من الأصوات لترجيح كفّة أحد المرشّحين، حيث تمكّن من فرض نفسه في معادلة التأثير على نتائج الجولة الثانية من الانتخابات، وباتت كل الاحتمالات ممكنة، في ظل طبيعة التحالفات بين الأحزاب التركية التي جمعت بين أحزابٍ مختلفة في الأيديولوجيات والتوجّهات السياسية من اليمين واليسار، ومن المحافظين الإسلاميين والعلمانيين الأتاتوركيين. وبالتالي، من المرجّح أن تشهد الجولة الثانية من الانتخابات تحالفاتٍ واصطفافات جديدة، تفرضها ضرورة البحث عن حيثيات الفوز بها وممكناته.

ويبدو أن بازار المساومات قد بدأ مبكّراً مع أوغان، إذ لم يتأخّر كلجدار أوغلو في الاتصال به، وتهنئته على نسبة الأصوات التي حصل عليها، في خطوةٍ قد تمهّد لعقد لقاءٍ بينهما، ولإمكانية عقد صفقة بينهما، خصوصا أنهما يتفقان على نقطة ترحيل اللاجئين إلى بلادهم، الذين يبالغ أوغان كثيراً في تقدير أعدادهم، ويزعم إنهم 13 مليوناً، وخصوصا اللاجئين السوريين والأفغان، حيث سبق أن توعّد كلجدار أوغلو اللاجئين السوريين بإعادتهم إلى بلادهم خلال عامين في حال فوزه بالرئاسة. وفي المقابل، من الصعب على حزب الشعب الجمهوري التخلي عن دعم حزب اليسار الأخضر ذي الغالبية الكردية، نظراً إلى أن الكتلة الانتخابية الداعمة له وصلت إلى نسبة 10.54% من أصوات الناخبين، وبات يمتلك تحالف "العمل والحرية"، الذي يقوده، 65 مقعداً في البرلمان الجديد. أما الرئيس أردوغان وتحالف الجمهور الذي يقوده، فيمكنهما التخلّي عن حزب الدعوة الجديدة، بالنظر إلى عدم أهمية كتلته التصويتية مقارنة بالنسبة التي حصل عليها أوغان، لكن من الصعب أن يحصل التحالف بينهما، بالنظر إلى أن أوغان كان ضمن قيادة حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهجلي، واختلف معه لأنه كان يعارض قيادته الحزب وتحالفه مع أردوغان، الأمر الذي أدّى إلى طرده منه. ومع ذلك، كل شي ممكن في السياسات الحزبية التركية، خصوصا أن أوغان سيحاول، في المرحلة الحالية، البحث عن مصالح شخصية وحزبية، في افتقاده حزبا داعما له، كونه لا ينتمي لأي حزب تركي، ولا يريد أن يبقى خارج المعادلة السياسية، وسيسعى إلى إبرام صفقة مع طرفٍ يعطيه مكاسب أكثر.

الواقع أن عوامل عديدة أفضت إلى حصول أوغان على 5.17% من الأصوات، وهي لا تمثل قاعدته التصويتية فقط، بل تمثل أيضاً الأصوات التي ذهبت إليه نتيجة انسحاب المرشّح محرم إنجيه، زعيم "حزب البلد"، من السباق الرئاسي قبل ثلاثة أيام من الجولة الأولى. كما أنها تتألف من فئات الشباب الذين لم يفضّلوا التصويت لأي من أردوغان وكلجدار أوغلو، فضلاً عن المتردّدين.

يكشف المشهد الانتخابي أن حظوظ الرئيس أردوغان أكبر للفوز في الجولة الثانية من الانتخابات، ليس فقط لأن النسبة التي حصل عليها في الجولة الأولى هي الأكبر، بل أيضا لأن تحالفه متماسكٌ أكثر من تحالف كلجدار أوغلو، إلى جانب أن خروج معظم الأحزاب الصغيرة من معادلة الانتخابات الرئاسية سيدفعها إلى السعي إلى عقد تحالفاتٍ جديدة، والأمر يتوقف على قدرة كلا المرشّحين على جذبها وتشجيعها للتحالف معه، وعلى اللعب على التعقيدات الناشئة. إضافة إلى أنه في حال حصول تفاهم أو تحالف بين كلجدار أوغلو وأوغان، فلن تذهب كتلته التصويتية في الاتجاه نفسه، على اعتبار أن الديناميات ستختلف في الجولة الثانية، ضمن معادلة عدم إمكانية التوفيق بين نزعات القوميين الرافضة التحالف مع الأحزاب التي تمثل الأكراد في تركيا.

يمكن القول، إضافة إلى ما سبق، إن نتائج الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة التركية سترتبط أيضاً بالمحافظة على نسبة التصويت العالية وزيادتها، والتي كانت مرتفعةً في الجولة الأولى وبلغت 88.9%، وهي أعلى نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات التركية، وعلى قدرة كلا المرشّحين على التحشيد وجذب مزيد من الناخبين الأتراك، وخصوصا الشباب، للتصويت لصالحه، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشية نتيجة ارتفاع الأسعار وانخفاض سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الصعبة، وتراجع القدرة الشرائية لعموم الأتراك، خصوصاً الفئات محدودة الدخل والفقيرة.

يبقى أن الانتخابات الرئاسية التركية تحظى باهتمام وترقّب مختلف أوساط الرأي العام التركي، نظراً إلى تداعيات نتائجها على النظام في تركيا ووضعها الداخلي، إلى جانب اهتمام أوساط سياسية عربية وأوروبية وأميركية، كونها ستؤثر على مجمل علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة، حيث تختلف كثيراً وجهات نظر كلا المرشحين إزاء العلاقة مع أوروبا والعالم، وتطاول السياسة الخارجية لتركيا، وطبيعة العلاقة مع حلف الناتو والتعامل مع روسيا، وكذلك الاتحاد الأوروبي، وسوى ذلك.

عن الكاتب

عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واحتلاف الحقوق"


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس