سعيد الحاج - عربي بوست

كثيرةٌ هي عوامل نجاح تجربة «العدالة والتنمية» في تركيا، لكن الكثيرين يرون أن الإنجازات الاقتصادية تحديداً كانت سر استمرار الحزب في حكم تركيا حتى الآن. فقد ورث «العدالة والتنمية» بقيادة أردوغان بلداً مفلساً ومستديناً، فحقق على مدى السنوات الماضية، قفزات مهمة في المجال الاقتصادي لمست حياة المواطن بشكل مباشر، والذي بدوره جدد ثقته بأردوغان والحزب مرة إثر مرة منذ 2002 وحتى الانتخابات الأخيرة في 2018.

صحيح أن وتيرة الإنجازات الاقتصادية خفت وخفتت بعد عام 2013، ولم تعد بنفس درجة السنوات الأولى، وهو أمر متوقَّع بطبيعة الحال، إلا أنه بقي دائماً رصيد مهم للحزب بين عموم الشعب التركي وأنصاره، خصوصاً لما حققه في هذا المجال وغيره.

فإضافة إلى درجة التشبع في كل قطاع من القطاعات مع الوقت، تواترت ظروف وأحداث كثيرة داخل تركيا وفي محيطها، كان يمكن أن تودي بالاقتصاد التركي، لكن ذلك لم يحصل. فقد كانت تركيا من البلاد الأقل تأثراً بالأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، كما أن اقتصادها بقي متماسكاً ومستمراً في النمو رغم تضافر أزمات داخلية وخارجية كثيرة.

عدة منافسات انتخابية، من بينها البرلمانية، في يونيو/حزيران 2015، التي تراجع فيها «العدالة والتنمية»؛ أزمات داخلية مثل أحداث «جيزي بارك» وقضايا الفساد عام 2013؛ والمحاولة الانقلابية الفاشلة في 2016 وإعلان حالة الطوارئ على أثرها؛ واستئناف «العمال الكردستاني» عملياته الإرهابية في 2015؛ وأزمات السياسة الخارجية المتعددة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومِن قبلهما روسيا وبعض دول المنطقة؛ والتطورات السلبية للأزمة السورية، والانخراط التركي فيها عسكرياً من خلال عملتي «درع الفرات» و»غصن الزيتون»؛ والإقليم اللاهب من سوريا إلى العراق إلى إيران، وغيرها من الأحداث والأزمات، مرت على تركيا أو عايشتها الأخيرة في السنوات القليلة الماضية دون أن تظهر لها تداعيات كارثية على الاقتصاد، الذي تضرر جزئياً وخصوصاً منحنى تراجع الليرة المستمر والبطيء أمام العملات الأجنبية.

لكن الشهور القليلة الأخيرة شهدت تراجعاً أكثر وضوحاً وسرعة لسعر الليرة بمقابل العملات الأجنبية، وخصوصاً في الأيام الأخيرة التي تخللتها أزمة حادة مع الولايات المتحدة الأميركية، التي فرضت عقوبات على وزيرين تركيَّين قابلتها أنقرة بالمثل. كما أنها تزامنت مع فرض الولايات المتحدة عقوبات على كل من روسيا ومِن قبلها إيران وهي (الأخيرة) العقوبات التي رفضت أنقرة الالتزام بها باعتبارها عقوبات «أميركية» وليست «دولية»، وأنها  تضر بالاقتصاد التركي، ما زاد من حدة الغضب الأميركي فيما يبدو.

فالوفد التركي الذي زار واشنطن للتباحث في حل المشكلات بين الطرفين عاد سريعاً ودون بيان واضح حول نتائج زيارته، ما أثار انطباعات بأن الطرفين لم يتوصلا سريعاً لحلول ترضي كليهما، وهو المعنى الذي ذكرته صحيفة «يني شفق» المقربة من الحكومة التركية، موردة أن الوفد قطع زيارته سريعاً وعاد بعد إصرار واشنطن على الإفراج الفوري وغير المشروط عن القس برانسون وعدد من منتسبي جماعة غولن الحاصلين على الجنسية الأميركية.

يرى «العدالة والتنمية» أن الاقتصاد هو بوابة الاستهداف الجديدة لأردوغان وله ولتركيا، بعد أن فشل الانقلاب الالكتروني (إنذار المؤسسة العسكرية) في 2007، وقضية حظر الحزب في 2008، والانقلاب القضائي في 2013، والانقلاب العسكري في 2016، وبعد أن نجح انتقال البلاد إلى النظام الرئاسي بعد الانتخابات الأخيرة. وهي رؤية ليست خاطئة بالنظر للتوتر الذي تشهده العلاقات التركية مع عدد كبير من الأطراف الفاعلة وغير الراضية عن السياسة الخارجية التركية، لكن ذلك لا ينفي أيضاً وجود مشاكل بنوية في الاقتصاد التركي بحاجة لعلاجات فاعلة.

رأى أردوغان في النظام الرئاسي عاملاً مساعداً على الحلول الاقتصادية، فهو من جهة يتيح إمكانية تشكيل حكومات قوية ومستقرة وهو أمر مهم للاقتصاد، ومن جهة أخرى يمكن الرئيس من إنفاذ رؤيته وسياساته على مؤسسات الدولة المختلفة. كما أنه أقدَمَ على إجراءين مهمين فيما يتعلق بالاقتصاد، حيث دمج أولاً بعض الوزارات المرتبطة بالملف الاقتصادي وقلَّص عددها؛ لزيادة مستوى التنسيق بينها، وعيَّن ثانياً من يثق به ويتفق معه في الرؤية مسؤولاً عن الملف الاقتصادي من خلال وزارة المالية والخزينة، وهو صهره براءات ألبيراق.

اليوم، خلال كتابة هذه السطور، تخطى الدولار حاجز 6 ليرات تركية، محطماً رقماً قياسياً آخر في مسلسل تراجع الليرة، وهو اليوم نفسه الذي يُنتظر أن يعلن فيه ألبيراق خطة وزارته وسياسات البلاد المالية للفترة المقبلة، ما يعني أمرين باتا متلازمين في الفترة الأخيرة: أن فكرة الاستهداف الخارجي من خلال المضاربات وسحب المَحافظ و»الأموال الساخنة» حاضرة مرة أخرى، وأن المسؤولية والحلول باتت أصعب من ذي قبل.

ورغم أن سعر العملة مقابل العملات الأجنبية ليس المؤشر الوحيد الصالح للتقييم، فإن الصورة الكبيرة الكاملة تقول إن الاقتصاد التركي يعاني مؤخراً في بعض جزئياته، وإنه بغض النظر عن نسبة مساهمة كل من المشاكل البنيوية الداخلية والضغوط الخارجية في هذا الواقع، إلا أن الملف الاقتصادي بات اليوم الأكثر أهمية وحساسية، والمعركة الرئيسة التي يخوضها أردوغان و»العدالة والتنمية» والتي تحتاج لحلول استثنائية، بعضها سريع التأثير وبعضها الآخر طويل الأمد.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس