محمود عثمان - الأناضول

شكلت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى واشنطن، بناء على دعوة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أحد أهم المحطات في مسار العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا، والتي تتعرض لامتحان عسير، عقب سلسلة من الهزَّات والأزمات كادت توصلها إلى نقطة الصدام على الأرض السورية.

ملفات سياسية ساخنة وقضايا معقدة وشائكة، جرى تناولها وبحثها ومناقشتها بين الرئيس أردوغان ونظيره ترامب في واشنطن، أولها الدعم السخي الذي تقدمه وزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون لميليشيات "قسد" الإرهابية، وليس آخرها أزمة صواريخ أس 400 الروسية، وقضية بنك هالك التركي، مرورا بالعقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد أنقرة، ومسألة إبادة الأرمن، وقضية احتضان واشنطن للقيادة الفعلية لتنظيم غولن، الذي تعتبره أنقـرة إرهابياً ومسؤولا عن المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز 2016 ،التي أودت بحياة أكثر من 250 مواطنا تركيا بين مدني وعسكري.

ترفض واشنطن حتى الآن الاستجابة لمطالب تركيــا بتسليمها "فتح االله غولن" زعيم الكيان الموازي، أو إنهاء عمل التنظيم على أراضيها، ومنعه من استخدام الولايات المتحدة منصة لإدارة شبكة استثماراته الاقتصادية الضخمة التي تقدر بمليارات الدولارات.

كما تتحايل واشنطن وتحاول الالتفاف على الاتفاقية التي تم التوقيع عليها في أنقرة، بين الوفد الأمريكي برئاسة نائب الرئيس الأمريكي بنس مع نظيره التركي بخصوص المنطقة الآمنة التي أطلقت تركيا من أجلها عملية عسكرية تحت اسم "نبع السلام" في شمال شرقي سوريا، ضد ميليشيات قسد الإرهابية التي تدعمها واشنطن.

** هل حققت زيارة الرئيس أردوغان أهدافها؟

ثمة نقاش حاد على صعيد السياسة الداخلية في تركيا، حول مخرجات قمة أردوغان ترامب الأخيرة في واشنطن، بين أحزاب المعارضة من جهة، و"تحالف الجمهور" المشكل من حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية في الجهة المقابلة.

فبينما تزعم أحزاب المعارضة عدم إحراز أي تقدم يذكر على صعيد الملفات الأساسية موضع الخلاف بين أنقرة وواشنطن، تشيد مصادر الرئاسة وحزب العدالة والتنمية بالإنجازات الكبيرة التي تحققت من خلال هذه الزيارة التاريخية.

بعيدا عن تجاذبات السياسة الداخلية، فقد كان سقف التوقعات مخفضا نوعا ما بسبب تعقيد وتشابك الملفات ونقاط الخلاف بين تركيا وأمريكا. لذلك لم تتولد لدى الخبراء قناعة بأن زيارة أردوغان لواشنطن سوف تعيد علاقات البلدين إلى ما كانت عليه سابقا، حيث تحتاج استعادة الثقة وقتا طويلا وظروفا مناسبة، بينما الظروف الحالية لا تبدو مهيأة لكي تتمكن أنقـرة من بناء استراتيجيتها على أساس التحالف الحصري مع الولايات المتحدة، خاصة في ظل إدارة ترامب وإجراءاتها المقلقة للدول الحليفة للولايات المتحدة.

كان ملفتا للانتباه أن الرئيس ترامب بدا حريصا على جلب قيادات من الكونغرس إلى البيت الأبيض، وجمعهم بالرئيس التركي أردوغان، وفتح حوار مباشر بينهما، كما استهل حديثه في المؤتمر الصحفي بالتأكيد على أن أردوغان سيعود إلى واشنطن في زيارة ثانية قريبة، مما يؤشر إلى استمرار الحوار بينهما في الملفات الحساسة.

** مؤشرات نجاح الزيارة

ثمة مؤشرات على أهمية الزيارة من حيث التوقيت والمخرجات منها على سبيل المثال لا الحصر

أولا، حفاوة الاستقبال، فقد حرص الرئيس ترامب على إبراز الجانب الاحتفالي العائلي بالرئيس أردوغان، في محاولة منه لتجاوز أزمة الرسالة التي وجهها للرئيس التركي قيل عملية "نبع السلام" وقامت إدارته بتسريبها، واعتبرتها أنقـرة مُهينة وخارجة عن الأصول الدبلوماسية.

ثانيا، سعى ترامب إلى إبراز الجانب الاقتصادي التجاري، والتعاون الاقتصادي، بالحرص على رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى مستوى 100 مليار دولار. وهو جزرة / مقترح تركي في الأساس، بهدف إذابة الجليد وإعادة تنشيط العلاقة بين البلدين، وتطمين واشنطن بأن أنقـرة ليست بصدد تغيير تحالفاتها.

ثالثا، سعى ترامب إلى إبراز التعاون بين واشنطن وأنقرة في الحرب ضد الإرهاب وتنظيم داعش، حيث أثنى على دور تركيا في ذلك، فيما شرح أردوغان باستفاضة ما قامت به بلاده في الحرب على الإرهاب، خصوصا أثناء القضاء على زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، واعتقال وتوقيف أكثر من ألفين من قياداته وعناصره.

رابعا، تأجيل وتحييد الخلاف بشأن منظومة الصواريخ الروسية إس 400 ،وإحالته إلى الحوار والتنسيق المشترك بينهما، وكذلك الأمر في مسألة المقاتلات F35 التي تشارك أنقرة في تصنيعها، مما سيساعد في امتناع واشنطن عن استخدام لغة التهديد بحق أنقـرة، وتفهم احتياجاتها الأمنية والاستراتيجية، بما فيها إمكانية تزويدها بمنظومة باتريوت ضمن شروط مقبولة. ويرجح أن تلعب وزارة الدفاع التركية دورا رئيسا في الحوار مع واشنطن خلال المرحلة المقبلة.

** أهم الملفات الخارجية التي تناولتها قمة واشنطن

*الملف السوري:

كان للملف السوري حضوره في المحادثات عبر ثلاثة جوانب، الأول عملية نبع السلام، حيث جرى تفكيك الخلاف، وإعادة تنظيم العلاقة على الأرض، وساعد تطبيق واشنطن لالتزاماتها في استيعاب تطورات العملية على المستويين السياسي والعملياتي. والثاني محادثات جنيــف وانطلاق اللجنة الدستورية، والتي يدعمها الطرفان، لكنهما على تباين بشأن التوقعات منها، إذ لا تبدو لدى واشنطن آمال عريضة في هذا الاتجاه، والثالث الوضع في إدلب، إذ تحتاج تركيا لدعم الولايات المتحدة في تثبيت وقف إطلاق النار، والضغط على روسيا للتوقف عن توفير الغطاء الجوي لعمليات القصف التي تطال إدلب وريفها وتستهدف مدنيين، وتشكل عامل ضغط على مفاوضي المعارضة في جنيــف، ولدى واشنطن استعداد للعبِ هذا الدور في المرحلة المقبلة.

ورغم عدم إفصاح الجانبين للكثير من المعلومات بشأن ما يتعلق بالوضع في سوريــة، ربما مراعاة لحساسية العلاقة بين أنقـرة وموسكو، إلا أن الأيام القابلة ستكشف مستوى التوافق والتنسيق بينهما، وما إذا كانت هناك تفاهمات غير معلنة كما يتوقع الخبراء. وقد لوحظ ثناء ترامب على حجم إنفاق تركيا على اللاجئين (40 مليار دولار)، مطالبا الدول الأوروبية الاقتداء بها.

*الملف الايراني:

إيران كانت الحاضر الغائب، في تلك المحادثات، صحيح أن أيا من الطرفين لم يتحدث عن الحالة الإيرانية، إلا أن العلاقة مع إيران احتلت حيِّزا مهما، خصوصا موضوع التزام تركيا بتطبيق الحصار الأمريكي على إيران، بالنظر إلى مستوى الخلاف السابق حول الموضوع، وإصرار واشنطن على فرض مقاطعة شبه شاملة على الاقتصاد الإيراني والعلاقات التجارية والنفطية معها، والحد من الاستثناءات السابقة.

** نتيجة الزيارة

من المبكر لأوانه القول إن العلاقات الأمريكية التركية اجتازت مرحلة الخطورة التي مرت بها خلال الفترة الماضية، ولكن يمكن تلمس بداية حوار استراتيجي يخدم الطرفين، خاصة أن إدارة ترامب حريصة على عدم توتير الأجواء مع تركيا قبل انتخابات 2020 كما أنه ليس من مصلحة الأخيرة الدخول في مواجهة مع واشنطن، سياسية أو اقتصادية.

ساهمت قمة واشنطن في دعم الرئيس ترامب في تصديه لهجمة خصومه الديمقراطيين، من خلال ترتيب لقاء وجاهي في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، جمع الرئيس أردوغان بالأعضاء البارزين في الكونجرس، تناول أبرز المسائل المعقدة، حيث قام الرئيس أردوغان بالإجابة على جميع الأسئلة والاستفسارات بوضوح وشجاعة.

من زاوية تركيا فقد نجحت الزيارة في نزع فتيل أزمة حادة بين البلدين، وحافظت على دعم البيت الأبيض لعملية نبع السلام وهذا هام وحيوي لدوامها. كما تجنبت عقوبات اقتصادية تزيد من وطأة الركود الاقتصادي الذي يعم المنطقة برمتها وليس تركيا وحدها.

رجح الطرفان لغة الحـوار من أجل التوصل إلى توافقات، قد تقود إلى إعادة بناء التحالف بينهما على أسس أكثر واقعية، ويستند إلى مصالح مشتركة تعزز من دور أنقرة في المنطقة، ومكانتها في الاستراتيجية الأمريكية.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس