ترك برس

عند تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 كانت غالبية الدول الإفريقية ترزح تحت حكم الاستعمار، وخلال تلك الفترة، كان لدى تركيا أولويات داخلية مثل التنمية الاقتصادية وبناء الدولة.

ومن الضروري تقييم الركود في العلاقات خلال السنوات التالية في إطار ديناميكيات فترة الحرب الباردة (1947-1991) والمخاوف الأمنية لتركيا وعلاقات الحلفاء.

وخلال الفترة نفسها، كانت هناك أيضا بعض المحاولات التركية للتقارب مع الدول الإفريقية، لكنها لم تدم طويلا.

وتزامنت مساعي تركيا لتحسين علاقاتها مع الدول الإفريقية نهاية ستينات وسبعينات وحتى تسعينات القرن الماضي مع فترات شعرت فيها أنقرة بالوحدة على المستوى الدولي وسعت إلى دعم تحركات السياسة الخارجية والشركاء البديلين.

إن سياسة إنهاء الاستعمار في إفريقيا التي اعتُمدت عام 1998، كانت أشمل المبادرات المتخذة حتى ذلك الوقت. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ هذه السياسة بشكل كامل بسبب بعض المشاكل السياسية والاقتصادية.

واكتسبت علاقات تركيا مع الدول الإفريقية زخما، خصوصا بعد إعلان 2005 "عام إفريقيا"، وانعقاد قمة التعاون التركية الإفريقية الأولى في 2008.

وفي السنوات التي تلت تلك القمة، فتحت تركيا 31 سفارة لتعزيز علاقاتها مع بلدان القارة السمراء على الأصعدة كافة، ليرتفع عدد سفاراتها في إفريقيا إلى 43.

وفتحت تركيا بين عامي 2009 و2014 سفارات في 27 دول إفريقية.

وتتميز سياسة تركيا الراهنة تجاه إفريقيا بسمات تفصلها عن الفترات السابقة، وأولها أن دوائر الأعمال والمنظمات غير الحكومية تنسق إلى حد كبير مع المنظمات العامة في تنفيذ السياسات تجاه إفريقيا وتعمل كعنصر مكمل للانفتاح على القارة.

والسمة الثانية وربما الأبرز، هي أن سياسة تركيا تجاه إفريقيا تستند إلى العديد من عناصر القوة الناعمة المختلفة مثل العلاقات التجارية والمساعدات الإنسانية ودبلوماسية الطيران ودبلوماسية الإعلام والدبلوماسية الثقافية والتعليم والدبلوماسية الدينية.

** العلاقات التجارية والثقافية

في 2021، بلغ حجم تجارة تركيا مع الدول الإفريقية 25 مليار دولار، وكان من الممكن أن تصل العلاقات التجارية إلى مستوى أعلى.

ووقّعت الشركات التركية العاملة في القارة منذ سبعينات القرن الماضي على مشاريع كبرى، خاصة في مجال البنية التحتية.

ويعد معهد يونس إمرة (YEE) المؤسسة الرئيسية التي تقوم بأنشطة الدبلوماسية الثقافية في تركيا، ولديه 10 مراكز ثقافية في ثماني دول إفريقية، ومن المقرر أن يتضاعف العدد في 2022.

وبينما يتزايد الاهتمام بالثقافة واللغة التركية من خلال المراكز الثقافية التي افتُتحت في القارة، تساهم هذه المراكز أيضا في تعميق التفاعل بين الثقافات.

ويوجد تطور آخر مهم من حيث الدبلوماسية العامة يعزز تواصل الثقافات بين الدول الإفريقية وتركيا، وهو تقديم منح دراسية للطلاب، تحت اسم رئاسة أتراك المهجر والمجتمعات ذوي القربى (YTB) التركية عام 2010.

ومع تقديم هذه المنح زاد عدد الطلاب الأفارقة في مؤسسات التعليم العالي بتركيا بأكثر من أربعة أضعاف، وتأتي الغالبية العظمى من هؤلاء الطلاب من دول إفريقية ترتبط تركيا بعلاقات مكثفة معها مثل الصومال والسودان وإثيوبيا.

كذلك، يدرس في جامعات تركية عدد كبير من الطلاب من دول إفريقية صغيرة نسبيا من حيث عدد السكان والجغرافيا، مثل جيبوتي وبنين وغينيا.

ويجب اعتبار المنح الدراسية المقدمة للطلاب الأفارقة مصدرا مهما للاستثمار من حيث مستقبل علاقات تركيا مع الدول الإفريقية، فمن يستفيدون من برامج المنح الدراسية هذه ويعودون إلى بلدانهم برأي إيجابي حول تركيا يلعبون دورا مهما في العلاقات بين أنقرة ودولهم.

وهناك مؤسسة أخرى تعمل في أنشطة الدبلوماسية التعليمية، هي مؤسسة "المعارف" التركية.

ففي فترة قصيرة، بعد تأسيسها عام 2016، استطاعت المؤسسة توفير التعليم لأكثر من 17 ألف طالب إفريقي من خلال 175 مؤسسة تعليمية في 25 دولة إفريقية. لذا، تساهم المؤسسة في القوة الناعمة لتركيا مع الطلاب الناطقين باللغة التركية.

إلى جانب المؤسسات السابقة، فإن المؤسسة الدينية التركية (TDV) تقدم أيضا منحا دراسية على مستوى الجامعات والمدارس الثانوية للطلاب المسلمين من مختلف البلدان الإفريقية.

وتقوم المؤسسة كذلك ببناء مساجد في العديد من البلدان الإفريقية، وإصلاح المساجد المتضررة، وتنظم حملات إغاثة للمحتاجين في القارة.

كما تقدم الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا) مساعدات إنمائية رسمية للدول الإفريقية.

وأطلقت الوكالة مع منظمات المجتمع المدني التركية والمؤسسات العامة الأخرى مشاريع في مجالات عديدة، لا سيما في التعليم والصحة والزراعة وتنظيم برامج تدريبية لتلبية الحاجة إلى العمالة الماهرة في القطاعات والمهن المطلوبة في البلدان الإفريقية.

** وكالة الأناضول والطيران

ومن المؤسسات التي تلعب دورا في القوة الناعمة لتركيا وكالة الأناضول للأنباء، حيث افتتحت الوكالة مراكز أو مكاتب لها في العديد من البلدان الإفريقية.

كما وصلت قناة "TRT World"، التي بدأت البث في 2015، إلى جميع أنحاء إفريقيا تقريبا باللغة الإنجليزية بفضل كل من البث عبر الإنترنت والبث التلفزيوني التقليدي.

ومن أهم التطورات التي حققتها القناة في هذا المجال إطلاق خدمة بث باللغة السواحلية عام 2020.

ومن حيث دبلوماسية الطيران، تسيّر الخطوط الجوية التركية اعتبارا من عام 2022 رحلات إلى 61 وجهة في 40 دولة في القارة الإفريقية.

وتعمل الشركة، التي أطلقت رحلاتها إلى 12 وجهة في القارة عام 2012 وحده، على توسيع شبكات رحلاتها، إذ تعمل وفقا لأولويات السياسة الخارجية التركية وتساعد على زيادة ظهور تركيا في إفريقيا.

** التعاون العسكري

لم تحز قضايا التعاون العسكري مع الدول الإفريقية باهتمام كبير حتى افتتاح قاعدة "تركصوم" العسكرية التركية في العاصمة الصومالية مقديشو عام 2017 لتدريب الجنود الصوماليين، وكذلك توقيع اتفاقية تعاون عسكري وأمني مع الحكومة الليبية عام 2019.

في الآونة الأخيرة، كان السبب الرئيسي وراء زيادة مناقشة الوجود العسكري التركي في إفريقيا هو زيادة تصدير الأسلحة والمركبات المدرعة والطائرات المسيرة (UAVs) والطائرات المسلحة من دون طيار (SIHA) إلى البلدان الإفريقية بالتوازي مع تطوير صناعة الدفاع التركية.

ويوجد طلب كبير على الطائرات من دون طيار تركية الصنع من الدول الإفريقية، لأنها أرخص من بدائلها في السوق، ولأن أنقرة لا تربط بيع هذه الأسلحة بالظروف والمواقف السياسية.

ولهذا، برزت تركيا كبديل مهم لكل من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة والصين، التي احتفظت بسوق الأسلحة في إفريقيا لسنوات عديدة.

ومن المرجح أن تزيد صادرات الصناعات الدفاعية التركية إلى البلدان الإفريقية في السنوات القادمة.

لكن هناك أيضا احتمال أن تؤدي هذه المبيعات إلى البلدان الإفريقية، التي لديها مشاكل مختلفة مع جيرانها أو التي تشهد صراعات داخلية، إلى الإضرار بالعلاقات مع الدول الإفريقية الأخرى.

** التحديات والمخاطر

لذلك، في عملية دمج عناصر القوة الصلبة في عناصر القوة الناعمة، التي كانت العمود الفقري لسياسة أنقرة تجاه إفريقيا لسنوات عديدة، ينبغي اتخاذ إجراءات دقيقة، لا سيما فيما يتعلق ببيع الأسلحة، ويجب أن تكون الديناميكيات داخل المنطقة مأخوذة في الاعتبار.

خلاف ذلك، هناك خطر من أن تؤدي هذه القضية إلى الإضرار بصورة تركيا وظهورها كقوة ناعمة، والتي تم فيها ضخ استثمارات كبيرة لسنوات عديدة.

ختاما، إن التحديات الأخرى الناشئة عن المنافسة الدولية في القارة تنتظر تركيا أيضا على المدى المتوسط والطويل.

ولمواجهة تلك التحديات، سيكون استخدام القوة الناعمة وعناصر القوة الصلبة معا أمرا حاسما في العلاقات التركية الإفريقية.


** مقال تحليلي في وكالة الأناضول بقلم الدكتورة ألم إيريجه تبجكلي أوغلو، عضو هيئة تدريس في جامعة يشار بولاية إزمير التركية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!