د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

يشكر الرئيس الأميركي جو بايدن أنقرة على كل الجهود التي بذلتها في ملف الأزمة الأوكرانية رغم أن المسار ما زال في بدايته. هو يفعل ذلك عمدا لإغضاب موسكو وعرقلة فرص الحوار والتفاهم التركي الروسي في ملف الأزمة الأوكرانية. فهل تتوتر العلاقات بينهما بعد مضمون البيان الختامي لقمة حلف شمال الأطلسي وتسريع القيادة التركية لإنجاز مذكرة التفاهم الثلاثية مع السويد وفنلندا التي فتحت الطريق أمامهما باتجاه العضوية في الناتو؟ أين وكيف سيكون ذلك؟ وهل ستتضرر برغماتية أردوغان بوتين التي سهلت تجنب وإنهاء أكثر من أزمة وملف توتر محتمل في قضايا ثنائية وإقليمية؟ وهل يوافق الكرملين على استمرار الوساطة التركية بين موسكو وكييف بعد كل ما حصل؟ ألا يزعج الاتصال الهاتفي المفاجئ بين الرئيسين بايدن وأردوغان ثم لقاؤهما المطول في مدريد الرئيس الروسي بوتين ويدفعه للقلق حول احتمال حدوث تفاهمات إقليمية تتعارض مع حسابات ومصالح موسكو؟

كانت القيادة الروسية فرحة بطاولة الحوار والتفاوض مع أوكرانيا برعاية تركية لأنها منحتها فرصة المماطلة والوقت للوصول إلى ما تريد أو عرقلة منح الطرف المقابل ما يهدف إليه. نجحت واشنطن في استبدال الطاولة إلى ثلاثية تركية سويدية فنلندية أولا. ثم حولتها إلى رباعية بمشاركة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي كطرف ضامن ثانيا. وفي النهاية أنزلت ضربتها القاضية وإنجاز اختراق المذكرة الثلاثية التي فاجأت الجميع بالتحول السريع في موقف أنقرة والتخلي عن الضوء الأحمر لصالح الأصفر في مسألة عضوية استوكهولم وهلسنكي الأطلسية.

المقايضة كانت روسية تركية أوكرانية فتحولت إلى تركية سويدية فنلندية سبقها حتما صفقة تركية أميركية. أين وكيف سترد روسيا لتعيد توازن المعادلات التي مالت الكفة فيها لصالح واشنطن والأطلسي والغرب؟ وما هو ثمن إغضاب تركيا روسيا؟

تعتبر تركيا طرفا أساسيا في البيان الختامي لقمة دول الأطلسي الأخيرة المنعقدة في مدريد. دول الحلف تعهدت بدعم أوكرانيا حتى تسترد سيادتها الكاملة على أراضيها ووصفت روسيا بأكبر تهديد للحلف وسلامته واستقراره. وهناك دعم تركي لرفع جاهزية قوات التدخل الأطلسي من 40 ألف إلى 300 ألف جندي، والإسهام في بناء الجبهة العسكرية الأطلسية الغربية الجديدة في مواجهة روسيا؟

لن تغامر تركيا بإغضاب موسكو بالمجان. لا بد أن يكون هناك هدايا ومكآفات قيمة تسد الفراغ الاستراتيجي في العلاقات التركية الروسية.

 تقول موسكو إن "قمة مدريد تعزز مسار الاحتواء العدواني الذي ينتهجه الحلف حيال روسيا". ويقول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن ستارا حديديا أسدل بين روسيا والغرب. منذ اليوم الأول كانت موسكو تعرف أن تفاهمات تركية سويدية فنلندية تفتح الطريق أمام عضوية البلدين الأطلسية ستحدث عاجلا أم آجلا لأن 29 دولة تريد ذلك، لكنها لم تكن تتوقع أن يتم ذلك بمثل هذه السهولة والسرعة.

جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في طريق عودته من قمة مدريد الأطلسية التذكير بالعملية العسكرية الخامسة التي تنوي أنقرة القيام بها في الشمال السوري معلنا أنها "ستكون الأكبر في سوريا، وأنها تحمل مفاجآت.. وأن تركيا ستتحرك بلغة يفهمها المجتمع الدولي" ما أن تكتمل الاستعدادات اللوجستية لخطة المنطقة الآمنة التي تريدها بلاده على طول الحدود التركية السورية.

وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أعلن من العاصمة التركية قبل أيام عن تحول وليونة في موقف بلاده وتفهم إيراني للمسائل التي تقلق أنقرة وتدفعها للقيام "بعملية خاصة محددة". لكن المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا ما زالت على موقفها بدعوة تركيا إلى الامتناع عن اتخاذ خطوات في شمالي سوريا من شأنها أن تؤدي إلى تصعيد خطير للتوتر. "العمليات العسكرية دون موافقة السلطات الشرعية في سوريا ستكون انتهاكا للسيادة ووحدة الأراضي". حصة أنقرة التي ما زالت متمسكة بقدرتها على مواصلة سياسة انفتاحية متوازنة على خط كييف – موسكو وسط كل هذا التصعيد الجديد بعد قمة مدريد الأطلسية كبيرة دون شك. من مصلحة روسيا حماية ما تبقى بيدها من فرص إبقاء شعرة معاوية مع الغرب عبر الخط التركي. فقرار روسي مغاير باتجاه مراجعة التعامل مع أنقرة، سيعني حتما المخاطرة باتفاقيات ومشاريع التجارة والسياحة، والخطط الاستراتيجية المشتركة والملف السوري وتوازنات البحر الأسود وخطوط الطاقة وهي في غالبيتها ملفات مترابطة بحبال من القطن معرضة للانقطاع في كل لحظة. فكيف ستتصرف روسيا؟

 قال رئيس مجلس الأمن الدولي للدورة الحالية السفير البرازيلي رونالدو كوستا فيلهو، إن المحاولات الأممية الحثيثة مستمرة بالتعاون مع تركيا لنقل الحبوب الأوكرانية إلى السوق العالمية. "هذا الملف أصبح يؤثر الآن على أوكرانيا وروسيا وأوروبا، بل وعلى العالم بأسره". لعبة موازنة العلاقات التركية على خط موسكو – كييف لإنجاح جهود الوساطة بشقها السياسي والغذائي، ستكون رهن الموقف الروسي وطريقة التعامل مع حدود أطلسية جديدة بطول 1340 كلم إضافية مجاورة لها.

الإجابة على سؤال كيف سيكون شكل العلاقة التركية الروسية بعد قمة الأطلسي ستكون عند الجانب الروسي أكثر مما سيتم البحث عنها في الجانب التركي. موسكو لم تقل كلمتها النهائية بعد حيال الخطوة التركية المباغتة والصادمة التي قلبت حساباتها رأسا على عقب في موضوع توسعة الحلف وفتح الأبواب أمام السويد وفنلندا. بوتين كان يعول على لعبة الوقت والمماطلة واحتمال إطالة أنقرة لمسألة التوسعة ريثما يسجل هو اختراقا جديدا في الملف الأوكراني، يمكنه من الذهاب إلى أية طاولة حوار وتفاوض بأوراق إضافية أقوى لكن التحول السريع في الموقف التركي خيب آماله.

قد تكون أنقرة نجحت في انتزاع بعض المطالب الاستراتيجية من واشنطن بعد لقاء القمة الأخير بين أردوغان وبايدن وبينها الملف السوري وعمليتها المرتقبة في الشمال والتي تهدف إلى إنشاء المنطقة الآمنة التي تعدّ لتنفيذها على طول الحدود التركية السورية بطول 470 كلم وعمق 30 كلم، وتحريك ملفّ الأزمة السورية نحو الحلحلة. وقد نرى مفاجأة أميركية أكبر في التعامل مع الملف السوري ومنطقة شرق الفرات حيال حليفتها قسد ومسألة داعش التي طالت أكثر من اللزوم. لكن الجزء الآخر من المعادلة التركية في سوريا مرتبط بالمواقف الروسية أيضا فكيف سينجح أردوغان في إقناع بوتين بإعطائه ما يريد والأخير يردد إن العالم سيتغير بشكل جذري بعد قرار قبول انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الأطلسي؟

المفاجأة التركية التي أدت إلى مذكرة التفاهم الثلاثي سيكون لها حتما ارتداداتها على التقارب والتنسيق التركي الروسي في ملفات ثنائية وإقليمية. أزمة الثقة التي نجحت واشنطن في زرعها مرة أخرى ستكون أبرز العقبات في طريق الجهود التي تبذلها أنقرة على خط التسوية السياسية للحرب الروسية الأوكرانية ومشروع نقل آلاف الأطنان من الحبوب إلى خارج البلدين المتحاربين. هناك نفوذ أطلسي جغرافي بشري اقتصادي عسكري أكبر على خط الحدود الغربية لروسيا ومن المحتمل أن تحمل موسكو لأنقرة جزءا من المسؤولية في إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم.

أعلنت مديرة الاستخبارات الوطنية الأميركية أفريل هاينس أن الولايات المتحدة لا ترى في الوقت الراهن إمكانية لعقد اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا. التحركات والاستعدادات العسكرية الأطلسية على الأرض تقول أيضا إن السيناريوهات العسكرية والميدانية كثيرة ومتنوعة وبينها توسيع رقعة الجبهات في كل لحظة. ما ينقذ أنقرة من ورطة محتملة في العلاقات مع روسيا هو إقناع واشنطن قبل إقناع بوتين بمخاطر التصعيد العسكري والأمني في الملف الأوكراني وارتداداته المحتملة على تفاعلات ملف الطاقة والغذاء والأمن في العالم وأن التضحية بزيلينسكي قد تكون أفضل من التضحية بأوكرانيا وقد يكون بالتالي الخيار الأقل خطورة من التضحية بالتوازنات الإقليمية والدولية التي باتت في غاية الحساسية والدقة. ربما أوروبا نفسها تعول على دور تركي من هذا النوع بعدما وصلت إلى قناعة أن الحرب ستطول وأنها ستحمل لها المزيد من الأعباء والمخاطر، وأن البحث عن العلاج لأزمة الغاز والغذاء الكارثية التي ستقرع الأبواب بعد أسابيع أفضل من اللجوء إلى المسكنات التي يجري البحث عنها.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس